قلت : " لقد فصل السيد إدوارد جيري , الذي أصبح وزيراً للخارجية فيما بعد , من جامعة أكسفورد بسبب كسله الفظيع . كما أن الدوق ويلنتجون ـ على حد علمي ـ كان كسولاً وغير مهتم بكتبه . ثم , ألم يخطر ببالك يا آنسة جريفيث أنك لم تكوني لتستطيعي استقلال القطار إلى لندن لو أن جورج ستيفنسون كان قد خرج مع أقرانه من الشباب للعمل بدلاً من التسكع في مطبخ أمه شاعراً بالملل حتى انتبه عقله الكسول إلى الحركة الرتيبة لغطاء غلاية الشاي ؟ "
لم تقل إيمي شيئاً سوى أن تنهدت بحنق .
فقلت معضداً فكرتي : " إنها نظريتي الخاصة . إذ أرى أننا ندين للكسل ـ سواءً كان اختيارياً أو جبرياً ـ بمعظم ابتكاراتنا وإنجازاتنا العظيمة . فالعقل البشري يفضل أن يتغذى على أفكار الآخرين دون بذل جهد يذكر , ولكن إذا حرم من تلك الرفاهية , فسوف يبدأ التفكير لنفسه ـ وتذكري أن مثل هذا التفكير الخلاق وربما يؤدي إلى نتائج قيمة . "
واصلت حديثي قبل أن تتاح لإيمي فرصة لإطلاق تنهيدة حانقة أخرى : " فضلاً عن ذلك , فإن الكسل به جانب فني . "
نهضت وأخذت من على مكتبي صورة طالما لازمتني , إنها صورتي الصينية المفضلة , وهي تصور رجلاً عجوزاً جالساً تحت شجرة يلعب تشبيك الخيوط بأطراف أصابع يديه .
قلت : " كانت في المعرض الصيني وقد أعجبتني , اسمحي لي بأن أريك إياها . إنها تدعى " رجل عجوز يستمتع بالكسل . "
لم تعجب إيمي بصورتي الجميلة , فقالت : " أوه , حسناً , إننا جميعاً نعرف طباع الصينيين . "
سألتها : " ألا تروق لك ؟ "
" بصراحة كلا , فأنا لا أهتم بالفن كثيراً , كما أن طريقة تفكيرك يا سيد بيرتون لا تختلف عن طريقة تفكير معظم الرجال . فأنتم تكرهون عمل المرأة ــــ ومنافستها لكم ــــ "
أصابتني الدهشة , فهاأنذا قد أصبحت عدواً للحركة النسائية . استمرت إيمي في دفاعها وقد احمرت وجنتاها .
" إنه لا تروق لك فكرة خروج المرأة من لميدان العمل , تماماً كوالدي . فقد كنت مهتمة بدراسة الطب ولكنهما لم يكونا مهتمين بدفع مصاريف الدراسة , ومع ذلك فقد كانا مستعدين لدفعها لأوين . لقد كان بإمكاني أن أصبح طبيبة أفضل من أخي ."
قلت : " أنا آسف لما حدث معك , فلابد أنه كان شيئاً قاسياً عليك . فحينما يريد المرء فعل شيء ــ "
واصلت كلامها بسرعة : " أوه , لقد تغلبت على هذا الآن , لفدي إرادة شديدة لا تقهر , وحياتي مشحونة بالأنشطة المختلفة . إنني واحدة من أسعد الناس في لايمستوك , ولدي الكثير لأفعله . ولكنني أسعى لهدم الفكرة البالية القائلة بأن مكان المرأة هو بيتها . "
قلت : " آسف إن كنت قد آلمتك . وهذه لم تكن وجهة نظري حقاً , وأنا لا أتصور أن ميجان يمكن أن تصبح ربة منزل تقليدية . "
" كلا , إنها طفلى مسكينة , ولكنني أخشى لا تصلح لأي شيء . " هدأت إيمي وعادت لتتكلم بطريقتها المعتادة مرة أخرى قائلة : " إن أباها , كما تعرف ـــ "
توقفت , فقلت مغتاظاً : " لا أعرف , فالجميع هنا يقولون (( إن أباها )) ثم يخفضون أصواتهم , ثم لا شيء . ماذا فعل ذلك الرجل ؟ ألا يزال حياً ؟ "
" في الحقيقة , لا أعرف , وأخشى أنه غامض بالنسبة لي شخصياً , ولكنه كان بلا ريب سيئاً . أعتقد أنه من أرباب السجون , وشخصية غريبة الأطوار إلى حد كبير , لذلك لن أُدهش إذا كانت ميجان مختلفة بعض الشيء . "
قلت : " إن ميجان في كامل قواها العقلية , وكما قلت من قبل , فإنني أعتبرها فتاة ذكية . وأختي تعتبرها كذلك أيضاً , إن جوانا تحبها كثيراً . "
قالت إيمي : " أخشى أن أختك تجد الحياة مملة هنا بالتأكيد . "
ما أن قالتها , حتى عرفت شيئاً آخر , إن إيمي جريفيث تكره أختي , فلقد بدا ذلك واضحاً في نبرة صوتها .
" لقد تساءلنا جميعاً كيف يمكنكما العيش هنا في هذه البقعة النائية . "
لقد أجبت عن هذا السؤال سابقاً .
صمتُّ لبرهة ثم أضفت قائلاً : " إنها أوامر الأطباء , أن أذهب إلى مكان هادئ جداً لا يحدث فيه شيء مزعج . ولكن هذا لا ينطبق على لايمستوك في الوقت الراهن ."
" كلا , كلا , أنت محق . "
بدت قلقة ثم نهضت وهي تهم بالمغادرة , وقالت عندئذ : " يجب وضع حد لكل هذه الوحشية ! فنحن لا نستطيع استمرار تحمل هذا الوضع . "
" ألا تفعل الشرطة شيئاً ؟ "
" من المفترض أن يفعلوا , ولكنني أعتقد أنه يجب أن نتعامل مع هذه السخافات بأنفسنا . "
" إننا لا نمتلك ما يملكونه من أسلحة . "
" هراء ! ربما كنا أكثر منهم حنكة وذكاء . ولا ينقصنا سوى القليل من العزيمة . "
ثم ودعتني بسرعة وذهبت . وعندما عادت جوانا وميجان قدمت صورتي الصينية لميجان , فتهللت أساريرها وقالت : " إنها رائعة , أليس كذلك ؟ "
" هذا هو رأيي . "
قطبت جبينها بالطريقة التي أعرفها جيداً .
" ولكنه أمر صعب حقاً , أليس كذلك ؟ "
" أن يكون الأمر كسولاً ؟ "
" لا , ليس أن يكون كسولاً ـ بل أن يستمتع به , لابد أنه عجوز جداً ــ "
توقفت عن الكلام , فقلت : " إنه رجل عجوز بالفعل . "
" لا أقصد أن يكون عجوزاً بهذا المعنى . بل أقصد أن يكون عجوزاً بـ ... "
قلت : " تقصدين أن على المرء أن يرقى إلى درجة عالية من التحضر حتى تظهر له الأمور على هذا النحو ـ إنها وجهة نظر معقدة ؟ أعتقد أنه يجب أن تكملي تعليمك يا ميجان عن طريق قراءة مائة قصيدة مترجمة عن الصينية . "
3
قابلت سيمنجون في وقت متأخر من اليوم .
سألته : " هل تمانع في أن تبقى ميجان معنا لبعض الوقت ؟ إن جوانا سعيدة بها ـ فهي تشعر بالوحدة أحياناً لعدم وجود أحد من أصدقاءها . "
" أوه ـ من ـ ميجان ؟ أوه , هذا كرم بالغ منك . "
كرهت سيمنجتون منذ ذلك الحين كراهية لم أتمكن من التغلب عليها . فقد بدا واضحاً أنه نسي كل شيء يمت بصلة لميجان . لم أكن لأبالي بو أنه كره الفتاة ـ فالرجل أحياناً يغار من أطفال الرجل السابق ـ بيد أنه لم يكن يكرهها , بل إنه لم يكن يلاحظ وجودها من الأساس . فمثل سيمنجتون وميجان مثل رجل لا يهتم بالكلاب وكان هناك كلب بمنزله , فلا ينتبه لوجوده إلا عندما يصطدم به فيوبخه , وأحياناً يربت عليه شذراً عندما يأتي ويتمسح به . لقد ضايقتني اللامبالاة التي أبداها سيمنجتون تجاه ابنة زوجته .
قلت : " ما خططك بشأنها ؟ "
بدا وكأنه فوجئ بسؤالي , فقال : " بشأن ميجان ؟ حسناً , سوف تعيش كما كانت في المنزل . أقصد بالطبع , أنه منزلها . "
كانت جدتي التي أحببتها كثيراً , تغني أغاني قديمة على الجيتار الخاص بها . وأذكر أن نهاية إحدى هذه الأغاني كانت كالتالي :
(( أوه يا عزيزتي , أن لست هنا
ليس لي مكان أو بيت ,
لم يعد لي مأوى , في البحر أو على الشط ,
فمكاني الوحيد في قلبك . ))
ظللت أرددها وأنا في طريق المنزل .
4
جاءت إيميلي بارتون بعد أنم انتهينا من تناول الشاي مباشرة . كانت تريد الحديث عن الحديقة , فأخذنا نتحدث ونحن نتجول هناك لمدة نصف ساعة تقريباً . ثم عدنا أدراجنا إلى المنزل .
وعندئذ أخفضت صوتها , وتمتمت قائلة : " أتمنى ألا تكون هذه الطفلة ـ مستاءة من هذا الحدث المروع . "
" أتقصدين موت أمها ؟ "
" نعم , بالطبع , ولكني في الحقيقة قصدت الإساءة المختلفة عنه . "
اعتراني الفضول , فأردت أن أعرف ردة فعل الآنسة بارتون .
" ما رأيك في تلك الإساءات ؟ أكانت حقيقية ؟ "
" كلا , كلا , بالتأكيد لم يكن بها شيء من الحقيقة . فأنا متأكدة تماماً أن السيدة سيمنجتون لم تكن ـ لم أعني أنه لم يكن."احمر وجه الآنسة بارتون ورتبكت ــــ " أقصد أن تلك الإساءات ليست حقيقية على الإطلاق ـ على الرغم من أنها قد تكون بمثابة حكم . "
قلت محدقاً إليها : " حكم ؟ "
ازداد احمرار وجه إيميلي بارتون وارتعشت شفتاها .
" لا أستطيع منع نفسي من الشعور بأن هذه الخطابات المروعة , وكل الحزن والألم الذي سببته , ربما يتم إرسالها لغرض ما . "
قلت مقطباً جبيني : " لقد أرسلت لغرض ما بكل تأكيد . "
" كلا , كلا يا سيد بيرتون , لقد أسأت فهمي . إنني لا أتحدث عن هذا المخلوق الضال الذي كتبها ـ فلابد أنه شخص منبوذ تماماً . وإنما أعني أن الله قد ابتلانا بها ليوقظ ضميرنا وينبهنا إلى أخطائنا ."
قلت : " إن الله لا يجبر الإنسان على فعل الشر , فالإنسان هو الذي يوعز إلينا بالشرور . "
" ما لا أستطيع فهمه أبداً هو ما الذي يدفع أي إنسان إلى فعل شيء كهذا ؟ "
هززت كتفي قائلاً : " عقلية مريضة . "
" يبدو أنه إنسان تعيس جداً . "
" لا يبدو لي أنه تعيس , وإنما هو ملعون , وأنا لست نادماً على هذا الوصف , بل أعنيه تماماً . "
اختفت الحمرة عن وجنتا الآنسة بارتون وأصبحتا شاحبتين .
" ولكن لماذا يا سيد بيرتون , لماذا؟أية سعادة يحصل عليها المرء من شيء كهذا؟ "
" لا أستطيع أنا ولا أنتي فهم ذلك , وهذا من فضل الله علينا . "
أخفضت إيميلي بارتون صوتها قائلة : " يقولون أنها السيدة كليت ـ ولكنني لا أستطيع تصديق هذا . "
هززت رأسي , بينما واصلت حديثها مهتاجة : " لم يحدث شيئ كهذا من قبل , على أن أذكر أنه قد كان مجتمعاً صغيراً يعيش في سعادة . ترى ماذا كانت أمي العزيزة لتقوله عما يحدث الآن ؟ حسناً , إنني أحمد الله لأنها ماتت قبل أن ترى مثل هذه الأشياء . "
من خلال ما عرفته عن السيدة بارتون الراحلة فإنها كانت صلبة بما فيه الكفاية لتحمل أي شيء , بل وربما كانت لتستمتع بهذا الحديث المثير .
واصلت إيميلي حديثها : " إنها تحزنني كثيراً . "
" ألم ـ ألم تتلق رسالة من هذه الرسائل المجهولة ؟ "
احمر وجهها وقالت : " أوه , لا ـ أوه , لا , حقاً . أوه ! هذا الشيء كان ليصيبني بالرعب . "
اعتذرت بسرعة , ولكنها غادرت مستاءة .
دخلت إلى المنزل ,كانت جوانا تقف في حجرة الرسم بجوار النار التي أشعلتها للتو, حيث كان الجو بارداً الليلة .
" جيري ! لقد وجدت هذا في صندوق الخطابات , مرسلاً باليد . حيث تقول بداية الخطاب : " أنت أيتها الساقطة . "
" ماذا بها أيضاً غير ذلك ؟ "
" قطبت جوانا جبينها قائلة : " نفس السخافات السابقة . "
ألقتها في النار , فقفزت قفزة سرعت آلمت ظهري والتقطتها قبل أن تلمسها النار .
قلت : " كلا , قد نحتاج إليها . "
" نحتاج إليها ؟ "
" لتقديمها للشرطة . "
5
في صباح اليوم التالي جاء المفتش ناش لرؤيتي . منذ اللحظة الأولى التي رأيته فيها أعجبت به , فقد كان نموذجاً مثالياً لرجل الشرطة , كان طويل القامة , ذا مظهر عسكري , وعيناه تنمان عن الذكاء والفطنة .
قال : " صباح الخير يا سيد بيرتون , أعتقد أنك تعرف سبب مجيئي إليك . "
" نعم , أعتقد أنها مسألة الرسائل . "
أومأ برأسه قائلاً : " أظن أنك تلقيت واحدة منها . "
" نعم , بعد وصولنا هنا مباشرة . "
" ما فحواها بالضبط ؟ "
فكرت قليلاً ثم ذكرت له كلمات الرسالة بأكبر قدر ممكن من الدقة .
استمع مفتش الشرطة بوجه خال من التعبيرات , وعندما أنهيت كلامي قال : " إذن لم تحتفظوا بالرسالة سيد بيرتون ؟ "
" آسف , لم نفعل.فقد كنت أظنه مجرد نوعاً من النكاية في وافدين جدد في القرية. "
أحنى مفتش الشرطة رأسه متفكراً . ثم قال في اقتضاب : " يا للأسف . "
قلت : " ومع ذلك فقد تلقت أختي واحدة في الأمس . وأنقذتها بصعوبة بعدما ألقتها في النار . "
" شكراً لك يا سيد بيرتون , فقد كان هذا جميلاً منك . "
ذهبت إلى مكتبي وفتحت الدرج الذي وضعتها فيه , فقد فكرت أنه ليس من المناسب أن تراها بارتريدج.أخذتها وأعطيتها لناش.فنظر إليها بسرعة , قم نظر إلي وقال: "
هل لها نفس مظهر الرسالة السابقة ؟ "
" أعتقد ذلك , إن لم تخني الذاكرة . "
" نفس الفارق بين المظروف ونص الرسالة . "
قلت : " نعم , فقد كان المظروف مطبوعاً على آلة كاتبة , أما الرسالة نفسها فقد كانت عبارة عن كلمات مأخوذة من كتاب وملصقة على ورقة بيضاء . "
أومأ ناش ووضعها في محفظته , ثم قال : " إنني أتساءل يا سيد بيرتون إن كنت تمانع في مرافقتي إلى قسم الشرطة ؟ حيث نستطيع هناك التحاور مع أفراد آخرين ونوفر على أنفسنا الكثير من الوقت والتداخل . "
قلت : " بالطبع , هل يمكن أن آتي الآن ؟ "
" إن لم يكن لديك مانع . "
كانت سيارة الشرطة تنتظر أمام الباب , فاستقللنا السيارة متوجهين نحو قسم الشرطة .
قلت : " أتظن أنك ستصل إلى نتيجة بخصوص هذه المشكلة ؟ "
أومأ ناش بثقة واضحة .
" أوه , نعم , سوف نصل إلى الفاعل بسهولة . إنها مسألة وقت وروتين , فهذه القضايا تسير ببطء , ولكن حلها أمر مؤكد . إنها مسألة تضييق الاحتمالات . "
قلت : " أتعني التركيز على أسماء بعينها واستثناء الأخرى ؟ "
" نعم , بالإضافة إلى بعض المهام الروتينية . "
" أتقصد مراقبة صناديق البريد , وفحص الآلات الكاتبة , والبصمات , وما إلى ذلك ؟ "
ابتسم قائلاً : " تماماً , كما تقول . "
في قسم الشرطة وجدنا سيمنجتون وجريفيث هناك وعرفني ناش على رجل ذي ذقن بارز وطويل يرتدي ملابس مدنية , وقال لي إنه المفتش جريفز .
شرح ناش قائلاً : " لقد جاء المفتش جريفز من لندن لمساعدتنا . إنه خبير في الرسائل مجهولة المصادر . "
ابتسم المفتش جريفز ابتسامة كئيبة . فتراءى لي على الفور أن الحياة التي يمضيها صاحبها في اقتفاء أثر كاتبي الرسائل المجهولة لابد وأن تصيبه بالاكتئاب . ومع ذلك فقد أظهر المفتش جريفز حماساً به مسحة من الكآبة .
قال بصوت عميق حزين أشبه بكلب بوليسي محبط : " إن هذه القضايا متشابهة إلى حد كبير . فقد تدهش من مدى تشابه كلمات وصياغة هذه الرسائل . "
قال ناش : " لقد قابلنا قضية مشابهة قبل سنتين وساعدنا المفتش حينئذ . "
رأيت بعض الرسائل على الطاولة أمام جريفز , لابد وأنه كان يتفحصها .
قال ناش : " من الصعب الحصول على رسائل من هذا النوعية , وذلك لأن الناس إما يحرقونها أو أنهم لا يعترفون بتلقيها من الأساس. فالناس هنا ـ كما رأيت بنفسك ـ أغبياء, ويخشون التعامل مع الشرطة , فهم متخلفون إلى حد كبير . "
قال جريفز : " غير أننا تلقينا عدداً من هذه الرسائل يكفي لبدأ التحري وكشف الجاني . " في تلك الأثناء أخرج ناش من جيبه الرسالة التي أعطيته إياها وسلمها لجريفز .
ألقى الأخير نظرة سريعة عليها , ثم وضعها بجانب الرسائل الأخرى وقال في سعادة ورضى : " رائع جداً ـ رائع جداً . "
لم أكن أظن أن هذه الرسائل البذيئة قد تبث السعادة في نفس أحد , غير أنه يبدو أن للخبراء وجهة نظر خاصة في هذا الصدد .
قال المفتش جريفز : " أعتقد أننا حصلنا على عدد كاف من الرسائل للبدء في العمل , وسوف أطلب منكم أيها السادة , إذا تلقيتم المزيد منها , أن تبلغونا على الفور ؛ وكذلك إذا سمعتم أن أحداً تلقى رسالة مجهولة المصدر ـ وبخاصة أنت , أيها الطبيب بين مرضاك , فابذلوا ما بوسعكم لإقناعه بالمجيء إلينا وإبلاغنا عنها . لدينا ـ " قلب الرسائل بأطراف أصابعه , مستطرداً : " واحدة للسيد سيمنجتون تلقاها منذ شهرين , وواحدة للسيد جريفيث , وواحدة للآنسة " جينش " , وأخرى لجينيفر كلارك , النادلة بمطعم " ثري كراونز " , والرسالة التي تلقتها السيدة سيمنجتون , وأخيراً تلك التي تسلمتها الآنسة بيرتون . أوه , نعم , ورسالة بعثها لنا مدير البنك . "
قلت : " إنها مجموعة تمثل جميع الشرائح . "
" ولا تختلف عن القضايا المماثلة ! فهي شديدة الشبه بتلك الرسائل التي كانت تكتبها تلك المرأة المخبولة , كما أنها صورة طبق الأصل من تلك الرسائل التي واجهناها في نوثرمبلاند ـ والتي كتبتها إحدى الطالبات بالمدرسة . بوسعي أن أعلن لكم أيها السادة أنني أود رؤية شيء مختلف . "
قلت متمتماً : " لا جديد تحت الشمس . "
" بالضبط يا سيدي . ولو كنت تعمل في نفس مهنتنا لتبين لك صدق هذه المقولة . "
تنهد ناش قائلاً : " نعم , بالفعل . "
سأل سيمنجتون : " هل توصلتم إلى رأي محدد بشأن كاتب هذه الرسائل ؟ "
" هناك أوجه شبه مشتركة بين كل هذه الرسائل . وسوف أوضحها لكم أيها السادة لعلها توحي لكم بشيء يساعدنا . إن نص الرسائل يتألف من كلمات مصنوعة من أحرف منفصلة قطعت من كتاب مطبوع , إنه كتاب قديم وأظنه طبع عام 1830 . ومن الواضح أن هذا النهج قد اتُبع لتجنب خطر التعرف على الكاتب من خلال خط يده والذي يعتبر أمراً في غاية السهولة . كما يعرف الجميع الآن .... وما يسمى استخدام اليد الخفية في الكتابة أصبح أمراً غير ذي جدوى إن واجهه خبير محنك . وليس هناك بصمات على الرسائل , كما أن المظاريف لها أشكال مختلفة , وقد تعامل معها رجال البريد , والمرسل إليهم , وهناك رسائل أخرى عليها بصمات غير واضحة , ولكن لا يجمعها شيء واحد , مما يشير إلى أن الراسل كان حريصاً على أن يرتدي قفازات , وقد تمت كتابة العناوين على المظاريف بآلة كاتبة مهترئة من طراز وندسور 7 بها حرفا الألف والتاء خارجان على الخط المستقيم . وقد أُرسل معظمها من البريد المحلي أو وضعت باليد في صندوق الرسائل المنزلي . وقد كتبتها امرأة , وأنا أعتقد أنها امرأة في متوسط العمر أو أكبر ,وربما كانت غير متزوجة,على الرغم من أني غير متأكد. "
استمعنا بإنصات لدقيقة أو اثنتين دون أن نقاطعه , ثم قلت : " إنك تراهن على الآلة الكاتبة , أليس كذلك ؟ فلابد أنه من السهل الوصول إليها في قرية صغيرة كهذه . "
هز المفتش جريفز رأسه بحزن وقال : " إنك مخطئ في هذا يا سيدي . "
قال مراقب الشرطة ناش : " الآلة الكاتبة , للأسف , يسهل الوصول إليها . فهي آلة قديمة من مكتب السيد سيمنجتون , وقد تبرع بها لصالح جمعية المرأة , وأعتقد أنه من السهل الوصول إليها , حيث يذهب الكثير من السيدات هنا إلى الجمعية . "
" ألا تستطيع تحديد شيء معين من اللمسة الفنية , كما تطلقون عليها ؟ "
أومأ جريفز مرة أخرى .
" نعم , هذا ممكن بالطبع ـ غير أن المظاريف قد طُبعت كلها بواسطة شخص يستخدم إصبعاً واحداً . "
هو إذن شخص غير بارع في استخدام الآلة الكاتبة ؟ "
" كلا , أنا لا أعني ذلك . بل أعني أنه شخص يجيد استخدام الآلة الكاتبة ولكنه لا يريدنا أن نتعرف على حقيقته . "
" أياً كان كاتب هذه الأشياء فلابد أنه ماكر . "
قال جريفز : " إنها يا سيدي تستخدم كل الحيل الممكنة . "
قلت : " لم أكن أظن أن هؤلاء النسوة القرويات لديهن هذه العقول . "
سعل جريفز , قائلاً : " أخشى أنني لم أكن واضحاً , ولكن هذه الرسائل كتبت على يد امرأة مثقفة . "
" ماذا ؟ أتعني أنها " ليدي " ؟ "
خرجت مني الكلمة عفوياً . فلم أستخدم هذه الكلمة منذ سنوات . ولكنها الآن جاءت على شفتي تلقائياً , بعد مضي أيام طوال منذ أن عرفتها , منذ أن كانت جدتي تقول بصوت تفوح منه رائحة العجرفة التلقائية : " بالطبع إنها ليست ليدي يا عزيزي . "
فهم ناش ما أقصده على الفور , فقد كانت كلمة ليدي لا تزال تعني شيئاً له .
قال : " ليس بالضرورة أن تكون ليدي , ولكنها بالتأكيد ليست امرأة قروية . فمعظمهن أميات هنا لا يستطعن هجاء الكلمات , وقطعاً لا يستطعن التعبير بطلاقة . "
لذت بالصمت بعدما صدمت بهذه التعقيدات . إذ إن المجتمع هنا صغير للغاية . وقد تخيلت في اللاوعي أن كاتبة الرسائل هي السيدة كليت وأضرابها من النساء , فهي امرأة ماكرة .
صاغ سيمنجتون أفكاري بكلمات , حيث قال بحدة : " ولكن هذا يضيق نطاق البحث إلى ست أو اثنتي عشر امرأة على الأكثر ! "
" هذا صحيح . "
" لا أصدق ! "
عندئذ قال سيمنجتون بصوت تكسوه المرارة , وكأنه يخرج الكلمات بصعوبة : " لقد سمعت ما ذكرته في الاستجواب . وإذا ما كنت تعتقد أن تلك الشهادة كانت بناء على رغبة مني لحماية ذكرى زوجتي , فإنني أود أن أكرر الآن أنني مقتنع تمام الاقتناع بأن كل ما ورد في الرسالة التي تسلمتها زوجتي كان محض افتراءات . لقد كانت زوجتي حساسة ورقيقة للغاية , وربما يمكنكم اعتبارها عصبية . ومثل هذه الرسالة من شأنها أن تسبب لها صدمة نفسية عنيفة , بالإضافة إلى أنها كانت معتلة الصحة . "
رد جريفز على الفور : " هذا صحيح إلى حد كبير يا سيدي , فهذه الرسائل لا تشير إلى أن كاتبها واثق من معلوماته . إنها مجرد اتهامات عمياء . ولم يكن هناك ابتزاز . ولا يبدو أن بها أي تحيز ديني ــ كما يحدث في بعض الأحيان . إنها فقط مليئة بالجنس والبغضاء ! وهذا يعطينا مؤشراً جيداً للتعرف على الكاتب . "
نهض سيمنجتون , وقال بشفتين مرتعشتين : " أتمنى أن تجد الشيطانة التي كتبت هذه الرسائل اللعينة سريعاً . لقد قتلت زوجتي كما لو أنها غرست سكيناً في قلبها . " صمت قليلاً ثم أضاف : " إنني أتساءل , ما شعورها الآن ؟ " . خرج تاركاً السؤال بدون إجابة.
سألت : " ما شعورها الآن يا جريفيث ؟ " وبدا لي أن الإجابة في نطاق اختصاصه .
" الله أعلم . ومن جانب آخر , فقد تكون مستمتعة بقوتها . فلابد أن موت السيدة سيمنجتون قد أشبع جنونها . "
قلت برعشة خفيفة : " لا أتمنى ذلك . لأنها إن كانت كذلك , فسوف ــ "
ترددت فيما أنهى ناش عبارتي قائلاً : " فسوف تحاول مرة أخرى ؟ إن هذا ما نتمنى حدوثه يا سيد بيرتون . وتذكر أن الضمآن يذهب إلى البئر كثيراً . "
صحت قائلاً : " سوف تكون مجنونة إن واصلت عملها هذا . "
قال جريفز : " سوف تواصل . فهذا النوع دائماً ما يفعل . إنه شيء يجري في دمائهم ولا يستطيعون التخلص منه . "
هززت رأسي وأنما أرتعد . ثم سألتهم إن كانوا يحتاجون إلي في شيء آخر , فقد كنت أريد الخروج في الهواء , حيث بدا الجو هنا مفعماً بالشر .
قال ناش : " لا يوجد لدينا المزيد يا سيد بيرتون كل ما عليك هو أن تبقي عينيك مفتوحتين , وتبذل ما بوسعك للدعاية ـ كأن تحث الجميع على إبلاغنا بأي رسالة يتلقونها من هذا النوع . "
أومأت برأسي قائلاً : " أعتقد أنه ما من أحد هنا إلا وتلقى رسالة من هذا النوع . "
قال جريفز : " هل تعرف أحداً , على وجه التحديد , لم يتلق رسالة ؟ "
" يا له من سؤال غريب ! فليس من المتوقع أن يبوح كل السكان بأسرارهم . "
" كلا , كلا يا سيد بيرتون , إنني لم أقصد ذلك , فقط أردت أن أتساءل إن كنت تعرف أي شخص وتثق تماماً أنه لم يتلق رسالة مجهولة ؟ "
ترددت ثم قلت : " حسناً , أعرف إلى حد ما . "
يتبع.........