نعم .. سيشهد القمر .. ؟
الله .. الله .. يا قمر ..! كم أنت بديع يا قمر ..! ، عرفتك قبلة الشعراء والمحبين ، يرددون في محرابك أهازيج الحب والجمال ، ويعزفون على قيثارتك ألحان العشق والخيال ، أنت النور والبهاء ، وأنت الصفاء والنقاء ، ورمز الخير والعطاء ، أنت آية الله في السماء ، أنت القمر .. يا قمر .. ! ربما تخذلني الألفاظ والكلمات للتعبير عن جمالك وبهائك .. يا نور .. يا بدر .. يا ضياء .. لا أملك إلا أن أردد مع الشعراء :
هـذا مليكُ القبّـةِ الزرقـاءِ يَنضو نِقابَ الليلةِ الورقاءِ
والأرضُ بالأنـوارِ مثلُ قصيدةٍ كُتِبَت على المصقولةِ البيضاءِ
يا أيُّها القمرُ المطلُّ على الحمى حدّث عن العشاقِ والشعراء
فَلكَم غدَوت سميرَهم في ليلةٍ نسماتُهـا كَتَنفُّسِ الصعداء
فارفع عُيونَ اليائسينَ إِلى السنى وتَفَقَّدَنَّ نَوافـذَ السجنـاء
وعُـدِ العليـلَ وعَـزِّهِ بِتَعِلَّةٍ واهدِ الضليلَ هناكَ في البيداء
اليوم عرفت فيك وجها آخر أيها القمر ... ! إنه وجه الحق والعدل والإنصاف ، حُمِّلت الأمانة ؛ فأحسنت أداءها ، فكنت للمظلوم عونا ، وللحق ناصراً ، وللمستجير شاهدا ومعينا ؛ كان ذلك في ليلة ليلاء ، خلا فيها ظالم خؤون ، غدر بصديقه الذي كان يسمر معه منفردين في برية مقفرة ، غدر فيه لا لشيء إلا لمطمع مادي ؛ لأنه عرف في جيب صديقه مبلغا من المال ، فسولت له نفسه قتل صديقه والاستيلاء على ما معه من المال ، وجاءته برقيات التأييد من قرينه الشيطان : اقتله ، وخذ ما عنده من المال .. إنه مبلغ محرز .. اقتله ، وادفنه في الصحراء .. ( ولا من رأى و لا من دري ..) .. اقتله إن المال الذي معه سينعشك .. وتحقق آمالك .. تتزوج أجمل الجميلات من أحسن العائلات .. إي والله لمَ لا .. لا تتردد ..لا تتردد ..
عزم على الأمر ..وفاجأ صديقه بضربة مباغتة طرحته أرضا .. لكنه لم يمت .. إنه يتنفس .. يتمتم .. يلجلج في الكلام .. :
ـ ما الذي تفعله يا فلان ..! ؟
ـ سأقتلك .. لا أحد يدري بك .. إني بحاجة إلى ما عندك من المال ..
ـ خذ المال ولا تقتلني .. آه .. آه .. ارحم عيالي .. أرجوك .. خاف الله يا فلان .. نسيت العشرة ..؟ ألسنا أصدقاء ..؟ ألا تخاف القصاص .. ! ؟
ـ القصاص ..؟ أي قصاص ..؟ نحن في برية لا شاهد ولا مخبر ..
ـ انظر إلى القمر .. سيشهد عليك القمر .
( يجهز عليه بطعنات متتالية ، وهو يقول : )
ـ سيشهد عليّ القمر ! خـذ .. خـذ .. خلّي القمر يشهد علي .. خلّي القمر يشهد علي..
( أجهز عليه ، ثم دفنه في التراب )
مرت الأيام والسنون .. تزوج القاتل بمن كانت حلمه وهواه ، وأمضى معها ما شاء الله له من الزمن ، وفي ليلة مقمرة خرج الزوجان إلى البرية يسمران ويأنسان .. أراد الزوج أن ( يتمدّح بنفسه أمام زوجته ) ويفتخر ، وراح يروي بطولاته ومغامراته .. ثم ضحك ضحكة غريبة لفتت انتباه الزوجة ، فقالت له : ما الذي أضحكك ..؟ قال : لا شيء .. ألحت عليه مرة ..ومرة .. ما الذي يضحكك ..؟ فيقول : لا شيء ..لا شيء ألحت عليه أكثر .. فأكثر.. قال لها : أضحكني القمر .. قالت : ما به القمر ..؟ . قال : لا شيء .. قالت : أنت تخفي عني شيئا ، ألست حبيبتك ..؟ أم أنك لا تثق بي . قال : أعوذ بالله .. سأخبرك .. تعرفين فلان الفلاني الذي فقد ، وانقطعت أخباره ، ولا أحد يدري عن أخباره شيئا حتى هذه الليلة ..؟ قالت : أعرفه .. قال أنا قتلته ، وقال لي في حينها ـ لغبائه ـ سيشهد عليك القمر .. فلما رأيت القمر هذه الليلة ضحكت .. كيف سيشهد عليّ القمر .. ؟ لقد انتهى كل شيء وما شهد عليّ القمر .
مرت الأيام والشهور سريعا ، وتبدل الحال بين الزوجين .. أغضب الرجل زوجته ، فذهبت إلى أهلها .. يزداد الشقاق والخلاف .. تنقلب العلاقة بينهما إلى الشحناء والبغضاء ، وبدافع الانتقام تتقدم الزوجة إلى القضاء ، وتخبر الجهات الأمنية بما حدّثها زوجها في الليلة المقمرة .. يؤخذ الزوج إلى التحقيق .. وهناك يعترف بالجريمة .. فيطبق عليه حد القصاص قتلا .. وبهذا يكون القمر أدى الأمانة .. وشهد بالحق .. ونال الظالم جزاءه .
بوركت يا قمر .. ! والله ما ازددتُ فيك إلا إكبارا وإعجابا.. ألست آية الله في الكون ..؟ فيك الجمال والبهاء والحق والعدل والإنصاف …
أما أنت أيها المجرم القاتل … الغافل الغبي … !
وأنت أيها المغدور …… !
وأنتِ أيتها الزوجـة .. ! فأترك للقاريء الحكم عليكم .
الدكتور عياد خيرالله