يا فرحـة ما تمت
اعتدت أن أخلو إلى نفسي وأنا أكتب مقالي الأسبوعي ، أفتح نافذة القلب ، أتنسم نفحات الشعر والأدب ... ماذا أكتب ... ؟ ولمن أكتب ...؟ .. وكيف أكتب ...؟ الليلة عرفات ، وغدا أول أيام عيد الأضحى المبارك ... العيـد ..! أجل العيـد .. هو ما سأكتب عنه .. ولكن ما الذي أكتبه ..؟ سرعان ما ابتدرني أبو الطيب المتنبي ، ينشـد قائلا :
عيدٌ بِأَيَّةِ حالٍ عُدتَ يا عيدُ بِما مَضى أَم بِأَمرٍ فيكَ تَجديدُ
أَمّا الأَحِبَّةُ فَالبَيداءُ دونَهُمُ فَلَيتَ دونَكَ بيداً دونَها بيدُ
سامحك الله يا أبا الطيب .. ! ما هذه الإطلالة .... ؟ إنه العيد ، الناس يفرحون فيـه ويمرحون ، ألا ترى الأهل والإخوة والأبناء يملؤون أركان البيت ، لقد عمّ البيت البهجة والسرور والمرح ، انظر .. هذا حفيدي سعد يتقدم أخويه ، ويشاكس أبناء عمه ، يضرب هذا ، ويأخذ لعبة هذا ، يا له من صبي شقي ، يشبه أباه في طفولته ، لا عليه ( فمن شابه أباه فما ظلم ) هؤلاء بقية الأبناء والأحفاد : بدر وعلاء ويوسف وأحمد وقصي و.. . لا تكاد تميز أصواتهم لكثرة ما أحدثوا من شغب ، وصياح ولعب ، بعضهم أخرج مسدسه (اللعبة) وراح يطلق أصواتا مفزعة ، وبعضهم يزمر في (صفارته) والآخر يلعب بالكرة ، فيصيب أخاه أو أخته ، وتلك أخواتهم يتبادلن اللُّعب و ( العاجات ) كل واحدة منهن معجبة بما تحمله من هدايا ، وما تلبسه من ثياب ،وما تحمله من حلوى وتُحف ، إنهن يضحكن ويقفزن ويلعبن في كل مكان من البيت ، .. البيت الذي تغير ترتيبه ، وتبعثرت أشياؤه ، وتناثرت فيه أمتعة الكبار والصغار .
ذاك طفل يحبو ، وآخر يناغي ... وآخر يتعثر في مشيته .. الله ما أجملهم ..! وما أحسن العيد الذي يجمعهم ..! ألم يقل الشاعر :
يزف لنا الأعياد عيدا إذا خطـا وعيدا إذا ناغى وعيدا إذا حبا
كزُغب القطا لو أنه راح صاديا سكبت له عيني وقلبي ليشربا
ما أروع هذا الجمع ..! وما أحلاه ..! ليس للعيد معنى سوى هذا المعنى ، أخذت أتفقد الأبناء واحدا واحدا ، أين أخوكم محمد ... ؟ ..إنه مشغول في حالة إسعاف مع مرضاه ، لا بأس إنه مخلص في عمله وفي مهنته .. أدارت إحدى الصغيرات محطات ( التلفاز) ... أسمع كاظم الساهر يغني ( عيد وحب هذي الليلة الناس معيدين ، لو إنت ويانا الليلة العيد بعيدين ) أجل لو أن ابني أحمد معنا في هذا الجمع لاكتملت فرحتنا ... تذكرت ما جاء في الأثر : ( أحب الأبناء إليك الصغير حتى يكبر ، والمريض حتى يشفى ، والغائب حتى يعود ) نحن نعذر أحمد ، إنه في سنته الأخيرة ، ولابد أن يضاعف الجهد للتخرج .
تفقدت النسوة والأمهات ..؟ إنهن في المطبخ يتبادلن الأحاديث حول حلوى العيد ، ويتدبرن أمر الغداء الذي هو الأضحية التي اعتدنا أن نقدمها في كل عيد حيث يجتمع الأهل والأبناء ... هاهي ابنتي تقرع الباب ومعها أطفالها ... يفتحون الباب ... أين زوجك ..؟ ..سيأتي على الغداء .. ، أخذت أفكر في ترتيبات الغداء ، كيف سنتناول الغداء وهذه (الجوقة) من الأطفال ، إنها جوقة الإزعاج المحبب ... اسمعي يا ابنتي أطعموا الأطفال قبل تقديم الغداء ، واصرفوهم إلى حديقة المنزل الخلفية .. أو .. دعيني أعطي كل واحد (عيديته) خمسين ليرة ،يذهب إلى أرجوحة جارنا (أبي رياض) ليلعبوا ويتفسحوا .. حتى يملوا ...اختلط الأبناء بالأحفاد ، وتعالت الأصوات من جديد ،هاهم يتدافعون إليّ ، كلٌّ واحد يحاول أن ينال السبق .
... أخذت أضحك من قلبي ، وأبتسم ابتسامة عريضة ، قطعها أحد الصغار عندما ضرب الكرة على الطاولة التي أجلس عليها ، سقط القلم .. نهضت أبحث عن العصا ، أوهمه أني سأوجعه ضرباً ... هيهات .. هيهات .. أين العصا .. ؟ أين الكرة .. ؟ أين الصغار .. ؟ أين الأبناء والأحفاد ..؟ أين أمهاتهم ..؟ .. لاشيء أمامي ............. أدركت أني كنت أغطّ في حلم عميق .. حلم طالمـا حلمته كلما مرّ العيد ...إنها لحظات سعيدة عشتها في حلم اليقظة ... ذلك هو حظي من العيد ... وكما يقولون .. ( يا فرحة ما تمّت ) وأخذت أنشد مع الشعراء :
أين الضجيج العذب والشغب؟ أين التدافع شابـه اللعب ؟
أين الطفولة في توقدهـا؟ أين الدمى في الأرض والكتب ؟
أين التسابق في مجاورتي ؟ شغفا إذا أكلوا وإن شربوا ؟
بالأمس كانوا ملء منزلنا واليوم ـ ويح اليوم ـ قد ذهبوا
ذهبوا أجل ذهبوا ومسكنهم في القلب ما شطّوا وما قربوا
في كل ركن منهمُ أثـر وبكل زاويـة لهم صخبُ
قد يعجب العذال من رجل يبكي ولو لم أبكِ فالعجبُ
هيهات ما كل البكـا خور إني وبي عزم الرجال أب ُ
اللهم اجمع شمل المحبين ، ورد المغتربين إلى بلادهم سالمين غانمين ، وأحسن عاقبتنا في الأمور كلها يا رب العالمين ، وكل عام وأبناء الأمة فائزون طيبون .
الدكتور عياد خيرالله