عرض مشاركة واحدة
قديم منذ /10-28-2011   #2

زهرة قاسيون
التميز الذهبي

الصورة الرمزية زهرة قاسيون

زهرة قاسيون غير متواجد حالياً

 رقم العضوية : 592
 تاريخ التسجيل : Mar 2010
 الجنس : ~ MALE/FE-MALE ~
 المكان : قاسيون دمشق
 المشاركات : 4,067
 النقاط : زهرة قاسيون is on a distinguished road
 تقييم المستوى : 19

مزاجي:
افتراضي

حول رسالة الغفران لأبي العلاء المعري



لا يصح أن نقول: "وُلد أبو العلاء المعري عام كذا، وعاش كذا عاما، ومات في عام كذا"، فالمهم أن الرجل عاش فى النصف الثاني للقرن الرابع الهجري، والأهم أنه شغل الناس فى عصره وما يزال يشغلهم فى غير عصره منذ أكثر من ألف عام وحتى كتابة هذه السطور التى لم ولن تكون الأخيرة فيما يُكتب عن أبي العلاء. عاش عصرا مليئا بالاضطرابات والقلاقل والانشقاقات فى الدولة الاسلامية، مزدحما بحركات التمرد والخروج والثورة، مليئا بالهبات الشعبية الهائجة، حافلا بمصارع الملوك ومصارع الشعراء، ومصارع المفكرين والقادة والرواد، مصطرعا بالمذاهب المتعددة والمختلطة والمتضاربة والمتشابهة والمتناقضة فى جميع أنحاء العالم العربي.

ماذا بقي له مجالا للاختيار سوى الاعتزال؟

ولقد استغرقه هذا الموقف، موقف المعتزل، حتى لقد اعتزل الاعتزال والمعتزلين، واستغرق هو هذا الموقف منذ أربعيناته حتى موته فى الثمانينات من عمره. ولم يكل أبدا عن املاء شعره حتى لقد كتب أهرامات من الشعر والنثر ضاع أغلبها أو دُفن معه أو تناقلته الألسن دون أن تدري شعر ونثر من هذا، حتى ضاع أغلب أبي العلاء المعري وأكثر ما أنتجته قريحته مما أشار هو نفسه إليه أكثر من مرة فى مقدمة "سقط الزند" ومقدمة "اللزوميات" ومستهل "رسالة الغفران". ولا يصح أبدا أن يُعامل أبو العلاء معاملة غيره من الشعراء بأن يُقال: "قال أبو العلاء فى الموت" أو "قال فى الخلود" أو "قال فى البعث" أو "الخمر.." وما الى ذلك مما درج عليه نقاده وشراحه. فهو شاعر ليس بالبسيط، انما هو صاحب مذهب متكامل تطرق منه الباب الصحيح، فتدلف الى دهاليز المذهب والى سراديب الفكر البشري فى أعمق أعماقه وفى أرقى تجلياته.

يأخذ البيت برقبة الآخر والسطر برقبة السطر والشطر يشد اليه الشطر، وهكذا كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا، ولا مجال هنا للتجزيئية لأنه كما قلت مذهب متكامل البناء قوي الأسس راسخ من المقدمات الى النهايات. . أما موضوعنا الآن فهو رسالة الغفران التي دوخت وما تزال تدوخ النقاد والشراح وعلماء الكلام والنحويين والعروضيين. ونحن نزعم أنه ما من أحد على الاطلاق استطاع أن يقترب من أبي العلاء ذلك القرب الذي يمكنه من الفتوى فى الرجل أو مذهبه.

قل لي ماذا تختار أقل لك من أنت! وليس غريباً أن يختار أبو العلاء المعري فيمن يختار فى مستهل الرسالة علقمة الفحل وهو شاعر جاهلي عمر طويلاً، والموقف الذي كان بين علقمة وبين امرىء القيس. ثم ليس غريباً أن يختار أبا زيد، وهو يعني أبا زيد الأنصاري البصري، والثقة فى النحو واللغة كما يلقبه سيبويه. ثم عدي بن زيد العبادي، وهو شاعر جاهلي نصراني والذي يقول:

أعاذل ما يُدريك أن منيتـــــي

إلى ساعة في اليوم أو فى ضحى غد

فذرني فمالي غير ما أُمض إن مضى

أمامي من مالي إذا خف عـــودي

وحُمت لميقات إلى منيتــــــي

وغودرت قد وسدت أو لم أُوســـد

وللوارث الباقي من المال فاتركــي

عتابي فإني مصلح غير مفســــد

ثم يختار أبو العلاء الأُقيشر، ثم أبا نواس، ثم النمر بن تولب العكلي، ثم نُصيب بن رباح أبو محجن الذي يقول:

أهيم بدعد ما حييت فان مت

فواحزنا من ذا يهيم بها بعدي

ثم أحمد بن الحسين المتنبي، ثم أخا ثمالة (المبرد)، ثم أخا دوس (ابن دريد)، ثم يونس بن حبيب الضبي، ثم سيبويه، ثم الكسائي، ثم أبا عبيدة، ثم عبد الملك بن قريب (الأصمعي)، ثم البكري (أعشى قيس)، ثم هوذة بن على، ثم عامر بن الطفيل، ثم زهير ابن أبي سلمى، ثم أبا ذؤيب الهذلي، ثم النابغة الجعدي، ثم لبيد، ثم حسان ابن ثابت، ثم الشماخ معقل بن ضرار، ثم أبا على الفارسي، ثم يزيد بن الحكم الكلابي، ثم حميد بن ثور الهلالي، ثم جران العود النميري الذى يقول:

حملن جران العود حتى وضعنه

بعلياء فى أرجائها الجن تعزف

وقلن تمتع ليلة النأي هـــذه

فإنك مرجوم غدا أو مسيــف

ثم الكندي امرؤ القيس..إلى غير ذلك مما يضيق عنه الحصر، حتى شاعر الجن الذى نسبه إلى الجني أبي هدرش الذي يقول:

حمدت من حط أوزارى ومزقها

عني، فأصبح ذنبي الآن مغفورا

وكنت آلفُ من أتراب قرطبـة

خُودا، وبالصين أُخرى بنت يغبورا

أزُورُ تلك وهذي، غير مُكـترث

في ليلة قبل أن أستوضح النـورا

ولا أمر بوحشي ولا بشــــر

إلا وغادرته ولهان مذعـــورا

.... إلى آخره مما لا تشك فى أنه من شعر أبي العلاء نفسه منسوبا إلى الجن، الأمر الذي يذكرنا بترجمة شيطان لعباس محمود العقاد. وقصيدة الجني في رأينا تشكل أروع مفتاح لرسالة الغفران، وفيها يلعب الرجل بالألفاظ اللعبة التي يجيدها فيملأ القصيدة بالألغاز ثم يفسر هذه الألغاز ثم يعود فيغطي التفسير.

نقطة أخرى نحب أن نلفت إليها النظر وهى الأبيات التي يستشهد بها من شعر السابقين وطبيعة هذه الأبيات، على أنه ما تزال أشعار العفاريت أخطر ما قاله أبو العلاء فى رسالة الغفران. فهو يتخيل ابن القارح وقد ركب بعض دواب الجنة ويسير، فاذا هو بمدائن ليست كمدائن الجنة، ولا عليها النور الشعشعاني، وهي ذات أدحال وغماليل. فيقول لبعض الملائكة:

ابن القارح: ما هذه يا عبد الله؟

المــلاك: هذه جنة العفاريت الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وذُكروا فى الأحقاف وفي سورة الجن، وهم عدد كثير.

ابن القارح: لأعدلن إلى هؤلاء فلن أخلو لديهم من أُعجوبة.

المــلاك: فيعوج عليهم، فإذا هو بشيخ جالس على باب مغارة، فيسلم عليه، فيحسن الرد ويقول: "

العفـريت: ما جاء بك يا انسي؟

ابن القارح: سمعت أنكم جن مؤمنون، فجئت ألتمس عندكم أخبار الجنان، وما لعله لديكم من أشعار المردة.

العفـريت: لقد أصبت العالم ببجدة الأمر..فسل عما بدا لك.

ابن القارح: ما اسمك أيها الشيخ؟

العفـريت: أنا الخيتعور أحد بني الشيصبان، ولسنا من ولد إبليس ولكنا من الجن الذين كانوا يسكنون الأرض قبل ولد آدم صلى الله عليه...

ابن القارح: أخبرني عن أشعار الجن، فقد جمع منها المعروف بالمرزُباني قطعة صالحة.

العفـريت: إنما ذلك هذيان لا معتمد عليه، وهل يعرف البشر من النظيم إلا كما تعرف البقر من علم الهيئة ومساحة الأرض؟ وانما لهم خمسة عشر جنسا من الموزون قل ما يعدوها القائلون، وإن لنا لالآف أوزان ما سمع بها الإنس وإنما كانت تخطر بهم أُطيفال منا عارمون، فتنفث إليهم مقدار الضوازة من أراك نعمان. ولقد نظمت الرجز والقصيد قبل أن يخلق الله آدم بكور أو كورين. وقد بلغني أنكم معشر الانس تلهجون بقصيدة امريء القيس "قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل" وتُحفظونها الحزاورة فى المكاتب، وإن شئت أمليتك ألف كلمة على هذا الوزن، على مثل: *منزل وحومل* وألفا على ذلك القري يجيء على *منزلُ وحوملُ* وألفا على *منزلا وحوملا* وألفا على *منزله وحومله* وألفا على *منزلُه وحوملُه* وألفا على *منزله وحومله* وكل ذلك لشاعر منا هلك وهو كافر، وهو الآن يشتغل فى أطباق الجحيم.

ابن القارح: أيها الشيخ، لقد بقى عليك حفظك.

العفـريت: لسنا مثلكم يابني آدم، يغلب علينا النسيان والرطوبة، لأنكم خلقتم من حمإ مسنون، وخُلقنا من مارج من نار.

ابن القارح: أفتمل على شيئا من تلك ألأشعار؟

العفـريت: فإذا شئت أمليتك ما لا تسقُهُ الركاب، ولا تسعه صحف دنياك.

ابن القارح: (لنفسه) لقد شقيت فى الدار العاجلة بجمع الأدب. ولم أحظ منه بطائل..ولست بموفق إن تركت لذات الجنة وأقبلت أنتسخ آداب الجن، ومعي من الأدب ما هو كاف، لاسيما وقد شاع النسيان فى أهل ادب الجنة، فصرت من أكثرهم رواية وأوسعهم حفظا، ولله الحمد".



واضح أن أبا العلاء هو نفسه "الخيتعور"، وهو نفسه في هذا المشهد ابن القارح، وواضح أن ثقافته الموسوعية النادرة حتى فى علم الهيئة وعلم الحساب تسخر من مثقفي عصره ومن علماء الكلام ومن النقاد والشراح..











 
التوقيع - زهرة قاسيون



وما أملي إلا بالله..
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
مـزقي يا دمشـق خـارطـة الـذل..

  رد مع اقتباس