:: Home Page ::
آخر 10 مشاركات
ما هي مواصفات الاسهم الحلال الأمريكية (الكاتـب : دعاء يوسف علي - مشاركات : 0 - المشاهدات : 890 - الوقت: 09:17 PM - التاريخ: 03-27-2024)           »          بنك سيتي جروب الحقيقي Citigroup (الكاتـب : دعاء يوسف علي - مشاركات : 0 - المشاهدات : 460 - الوقت: 03:52 PM - التاريخ: 03-26-2024)           »          افضل شركة توزع أرباح في السوق السعودي (الكاتـب : دعاء يوسف علي - مشاركات : 0 - المشاهدات : 462 - الوقت: 09:22 AM - التاريخ: 03-26-2024)           »          شروط استخدام موقع حراج (الكاتـب : دعاء يوسف علي - مشاركات : 0 - المشاهدات : 480 - الوقت: 07:39 AM - التاريخ: 03-25-2024)           »          أعضاء مجلس إدارة شركة شمس (الكاتـب : دعاء يوسف علي - مشاركات : 0 - المشاهدات : 500 - الوقت: 06:18 AM - التاريخ: 03-25-2024)           »          كيف ابيع اسهم ارامكو الراجحي عبر الهاتف (الكاتـب : دعاء يوسف علي - مشاركات : 0 - المشاهدات : 469 - الوقت: 03:55 PM - التاريخ: 03-24-2024)           »          صناديق توزع شهري (الكاتـب : دعاء يوسف علي - مشاركات : 0 - المشاهدات : 1075 - الوقت: 10:45 PM - التاريخ: 02-18-2024)           »          حلبية و زلبية..محمود المشعان (الكاتـب : محمود المشعان - مشاركات : 0 - المشاهدات : 851 - الوقت: 07:14 PM - التاريخ: 02-16-2024)           »          بهلول..محمود المشعان (الكاتـب : محمود المشعان - مشاركات : 0 - المشاهدات : 912 - الوقت: 04:09 PM - التاريخ: 02-13-2024)           »          صورة من الزمن الجميل..محمود المشعان (الكاتـب : محمود المشعان - مشاركات : 0 - المشاهدات : 970 - الوقت: 01:28 PM - التاريخ: 02-11-2024)



 
استمع إلى القرآن الكريم
 
العودة   منتديات قبيلة البو خابور > قسم الثقافة والشعر والآداب والطلاب والرياضة > منتدى الأدب والثقافة العامة

منتدى الأدب والثقافة العامة ثقافة عامة روايات شهيرة امهات الكتب ادب شعر

الإهداءات

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم منذ /02-15-2011   #11

القيصر
التميز الحقيقي

الصورة الرمزية القيصر

القيصر غير متواجد حالياً

 رقم العضوية : 644
 تاريخ التسجيل : Apr 2010
 المشاركات : 1,245
 النقاط : القيصر is on a distinguished road
 تقييم المستوى : 16

مزاجي:
افتراضي

فهل عجب أن يكون من بين الذين سجنوا وعذّبوا بعد تلك المظاهرات، الكثير منهم، هم الذين كانوا بحكم ثقافتهم الغربية يتمتعون بوعي سياسي مبكر، وبفائض وطنية.. وفائض أحلام.
والذين أدركوا، والحرب العالمية تنتهي لصالح فرنسا والحلفاء، أنّ فرنسا استعملت الجزائريين، ليخوضوا حرباً لم تكن حربهم، وأنهم دفعوا آلاف الموتى في معارك لا تعنيهم، ليعودوا بعد ذلك إلى عبوديتهم.
كان في مصادفة وجودي مع (سي الطاهر) في الزنزانة نفسها شيء أسطوري بحد ذاته، وتجربة نضالية ظلَت تلاحقني لسنوات بكل تفاصيلها، وربما كان لها بعد لك أثر في تغيّر قدري. فهناك رجال عندما تلتقي بهم تكون قد التقيت بقدرك.
كان (سي الطاهر) استثنائياً في كلِّ شيء، وكأنه كان يعد نفسه منذ البدء، ليكون أكثر من رجل.
لقد خلق ليكون قائداً. كان فيه شيء من سلالة طارق بن زياد، والأمير عبد الطارق، وأولئك الذين يمكنهم أن يغيروا التاريخ بخطبة واحدة.
وكان الفرنسيون الذين عذّبوه وسجنوه لمدة ثلاث سنوات يعرفون ذلك جيداً. ولكنهم كانوا يجهلون أنّ (سي الطاهر) سيأخذ بثأره منهم بعد ذلك بسنوات، ويصبح الرأس المطلوب بعد كل عملية يقوم بها المجاهدون في الشرق الجزائري.
أيّ صدفة.. أن يعود القدر بعد عشر سنوات تماماً، ليضعني مع (سي طاهر) في تجربة كفاحية مسلحة هذه المرّة!
سنة 1955.. وفي شهر أيلول بالذات، التحقت بالجبهة.
كان رفاقي يبدأون سنة دراسية ستكون الحاسمة، وكنت في عامي الخامس والعشرين أبدأ حياتي الأخرى.
أذكر أنَّ استقبال (سي طاهر) لي فاجأني وقتها. لم يسألني عن أيّة تفاصيل خاصة عن حياتي أو دراستي. لم يسألني حتى كيف أخذت قرار التحاقي بالجبهة، ولا أيّ طريق سلكت لأصل إليه. ظلَّ يتأملني قبل أ، يحتضنني بشوق وكأنَّه كان ينتظرني هناك منذ سنة.
ثم قال:
- جئت..!
وأجبته بفرح وبحزن غامض معاً:
- جئت!
كان ( سي الطاهر) هكذا أحياناً، يكون موجزاً حتَّى في فرحته؛ فكنت موجزاً معه في حزني أيضاً.
سألني بعدها عن أخبار الأهل، وأخبار ( أمّا) بالتحديد، فأجبته أنها توفيت منذ ثلاثة أشهر. وأعتقد أنه فهم كلّ شيء، فقد قال وهو يربت على كتفي، وشيء شبيه بالدمع يلمع في عينيه:
- رحمها الله، لقد تعذبت كثيراً.
ثم ذهب في تفكيره بعيداً إلى حيث لا أدري..
بعدها حسدت تلك الدمعة المفاجئة في عينيه، والتي رفع بها أمي إلى مرتبة الشهداء. فلم يحدث لي أن رأيت (سي الطاهر) يبكي سوى الشهداء من رجاله. وتمنيت طويلاً بعد ذلك أن أمدد جثماناً بين يديه، لأتمتع ولو بعد موتي بدمعة مكابرة في عينيه.
ألكلّ هذا تقلصت عائلتي فجأة في شخصه، ورحت أتفانى في إثبات بطولتي له، وكأنني أريد أن أجعله شاهداً على رجولتي أ, على موتي؛ شاهداً على أنني لم أعد أنتسب إلى أحد غير هذا الوطن، وأنني لم أترك خلفي سوى قبر لامرأة كانت أمي، وأخٍ يصغرني اختار له أبي مسبقاً امرأة ستصبح أمه.
كنت ألقي بنفسي على الموت في كل مرّة، وكأنني أتحداه أو كأنني أريد بذلك أن يأخذني بدل رفاقي الذين تركوا خلفهم أولادهم وأهلهم ينتظرون عودتهم.
وكنت كل مرة أعود أنا ويسقط آخرون، وكأن الموت قرر أن يرفضني..
وكان (سي طاهر) بعد أكثر من معركة ناجحة اشتركت فيها، قد بدأ تدريجياً يعتمد عليَّ في المهمات الصعبة، ويكلفني بالمهمات الأكثر خطورة، تلك التي تتطلب مواجهة مباشرة مع العدو. ورفعني بعد سنتين إلى رتبة ملازم لأتمكن من إدارة بعض المعارك وحدي، وأخذ القرارات العسكرية التي يقتضيها كل ظرف.
بدأت وقتها فقط أتحول على يد الثورة إلى رجل، وكأن الرتبة التي كنت أحملها قد منحتني شهادة بالشفاء من ذاكرتي.. وطفولتي.
وكنت آنذاك سعيداً وقد بلغت أخيراً تلك الطمأنينة النفسية التي لا تمنحنا إياها سوى راحة الضمير.
لم أكن أعي أنّ طموحاتي لا علاقة لها بالمكتوب وأنّ القدر كان يتربص بي في ذلك الوقت الذي كنت أعتقد فيه أن لا شيء بعد اليوم يمكن أن يعيدني إلى حزني السابق.
وجاءت تلك المعركة الضارية التي دارت على مشارف "باتنة" لتقلب يوماً كل شيء..
فقد فقدنا فيها ستة مجاهدين، وكنت فيها أنا من عداد الجرحى بعدما اخترقت ذراعي اليسرى رصاصتان، وإذا بمجرى حياتي يتغير فجأة، وأنا أجد نفسي من ضمن الجرحى الذين يجب أن ينقلوا على وجه السرعة إلى الحدود التونسية للعلاج. ولم يكن العلاج بالنسبة لي.. سوى بتر ذراعي اليسرى، لاستحالة استئصال الرصاصتين. ولم يكن هناك من مجال للنقاش أو التردد. كان النقاش فقط، حول الطرق الآمنة التي يمكن أن نسلكها حتى تونس، حيث كانت القواعد الخلفية للمجاهدين.
وها أنذا أمام واقع آخر..
ها هو ذا القدر يطردني من ملجأي الوحيد، من الحياة والمعارك الليلية، ويخرجني من السرية إلى الضوء، ليضعني أمام ساحة أخرى، ليست للموت وليست للحياة. ساحة للألم فقط.. وشرفة أتفرج منها على ما يحدث في ساحة القتال. فلقد بدا واضحاً من كلام (سي طاهر) يومها، أنني قد لا أعود إلى الجبهة مرّة ثانية.
في ذلك اليوم الأخير، حاول (سي طاهر) أن يحافظ على نبرته الطبيعية، وراح كما كان يودعني كل مرة قبل معركة جديدة. ولكن هذه المرة كان يدري أنه يعدّني لتحمل معركتي مع القدر.
غير أنه كان موجزاً على غير عادته، ربما.. لأنه ليس هناك من تعليمات خاصة تعطى في هذه الحالات.. وربما لأنه كان يتكبد يومها أكبر خسارة بشرية ويفقد في معركة واحدة عشرة من خيرة رجاله بين جرحى وقتلي. وكان يدري، والثورة مطوقة من كل جانب، قيمة كلّ مجاهد وحاجة الثورة إلى كل رجل على حدة.
ولم أقل له شيئاً ذلك اليوم.. كنت أشعر، لسبب غامض، أنني أصبحت يتيماً مرة أخرى.
كانت دمعتان قد تجمدتا في عينيّ. كنت أنزف، وكان ألم ذراعي ينتقل تدريجياً إلى جسدي كله، ويستقر في حلقي غصة. غصّة الخيبة والألم.. والخوف من المجهول.
كانت الأحداث تجري مسرعة أمامي، وقدري يأخذ منحىً جديداً بين ساعة وأخرى، ووحده صوت (سي طاهر) وهو يعطي تعليماته الأخيرة، كان يصل إليَّ حيث كان، ليصبح صلتي الوحيدة مع العالم.
وبرغم ذلك، مازلت أذكر تماماً حضوره الأخير، عندما جاء يتفقدني قبل سفري بساعة، ووضع ورقة صغيرة في جيبي وبعض الأوراق النقدية، وقال وهو ينحني عليّ وكأنه يودعني سراً:
"لقد قُدّر لك أن تصل إلى هناك.. أتمنى أن تذهب لزيارتهم حين تشفى وتسلّم هذا المبلغ إلى (أمّا) لتشتري به هدية للصغيرة، وأود أيضاً أن تقوم بتسجيلها في دار البلدية لو استطعت ذلك.. فقد يمر وقت طويل قبل أ، أتمكن من زيارتهم..".
وعاد بعد لحظات وكأنه نسي شيئاً ليضيف شبه مرتبك وهو يلفظ ذلك الاسم لأول مرة..
".. لقد اخترت لها هذا لاسم.. سجلها متى استطعت ذلك وقبّلها عني.. وسلّم كثيراً على (أمّا).."
كانت تلك أول مرة سمعت فيها اسمك.. سمعته وأنا في لحظة نزيف بين الموت والحياة، فتعلقت في غيبوبتي بحروفه، كما يتعلق محموم في لحظة هذيان بكلمة..
كما يتعلق رسول بوصية يخاف أن تضيع منه..
كما يتعلق غريق بحبال الحلم.
بين ألف الألم وميم المتعة كان اسمك.
تشطره حاء الحرقة.. ولام التحذير. فكيف لم أحذر اسمك الذي ولد وسط الحرائق الأولى، شعلة صغيرة في تلك الحرب. كيف لم أحذر اسماً يحل ضده ويبدأ بـ "أح" الألم واللذة معاً. كيف لم أحذر هذا الاسم المفرد _ الجمع كاسم هذا الوطن، وأدرك منذ البدء أن الجمع خلق دائماً ليقتسم!
بين الابتسام والحزن، يحدث اليوم أن أستعيد تلك الوصية:
"قبّلها عني.." وأضحك من القدر، وأضحك من نفسي، ومن غرابة المصادفات.
ثمَّ أعود وأخجل من وقار صوته، ومن مسحة الضعف النادرة التي غلّفت جملته تلك، هو الذي كان يريد أن يبدو أمامنا دائماً، رجلاً مهيباً لا هموم له سوى هموم الوطن، ولا أهل له غير رجاله..
لقد اعترف لي أنَّه رجل ضعيف؛ يحنّ ويشتاق وقد يبكي ولكن، في حدود الحياء، وسراً دائماً. فليس من حقّ الرموز أن تبكي شوقاً.
إنه لم يذكر أمكِ مثلاً.. تراه لم يحنّ إليها، هي العروس التي لم يتمتع بها غير أشهر مسروقة من العمر وتركها حاملاً.
ولماذا هذا الاستعجال المفاجئ؟ لماذا لا ينتظر بعض الوقت ليرتِّب قضية غيابه لأيام، ويقوم هو نفسه بتسجيلكِ؟
لقد انتظر ستة أشهر، فلماذا لا ينتظر أسابيع أخرى.. ولماذا أنا بالذات..
أيّ قدر جعلني أحضر إلى هناك بتوقيتك؟
كلما طرحت على نفسي هذا السؤال، دهشت له وآمنت بالمكتوب.
فقد كان بإمكان (سي طاهر) برغم مسؤولياته أن يهرب ليوم أو ليومين إلى تونس. ولم تكن قضية عبور الحدود بحراستها المشددة ودورياتها وكمائنها لتخيفه، ولا حتى اجتياز (خط موريس) المكهرب والمفروش بالألغام، والممتد بين الحدود التونسية الجزائرية من البحر إلى الصحراء، والذي اجتازه فيما بعد ثلاث مرات، وهو رقم قياسي بالنسبة لعشرات المجاهدين الذين تركوا جثثهم على امتداده.
أكان حبّ (سي طاهر) للانضباط، واحترامه للقوانين هو الذي خلق عنده ذلك الشعور بالقلق بعد ميلادك، وهو يكتشف عاجزاً أنه أب منذ شهور لطفلة لم يمنحها اسماً، ولم يتمكن حتى من تسجيلها؟
أم كان يخاف، هو الذي انتظرك طويلاً، أن تضيعي منه إن هو لم يرسخ وجودك وانتسابك له على ورقة رسمية عليها ختم رسمي؟
أكان يتشاءم من وضعك القانوني هذا، ويريد أن يسجل أحلامه في دار البلدية، ليتأكد من أنها تحولت إلى حقيقة.. وأنَّ القدر لن يعود ليأخذها منه، هو الذي كان حلمه في النهاية أن يصبح أباً كالآخرين بعد محاولة زواج فاشلة لم يرزق منها ذرّية؟
ولا أدري إذا كان (سي الطاهر) في أعماقه يفضّل لو كان مولوده صبيّاً.. أدري فقط، كما علمت فيما بعد، أنه حاول أن يتحايل على القدر وأن يترك قبل سفره اسماً احتياطياً لصبي،متجاهلاً احتمال مجيء أنثى. وربما فعل ذلك أيضاً بعقلية عسكرية، وبهاجس وطني دون أن يدري.. فقد كانت أحاديثه وخططه العسكرية تبدأ غالباً بتلك الجملة التي كثيراً ما سمعته يردِّدها "لازمنا رجال يا جماعة.."
إذن، لهذا كان (سي طاهر) يبدو سعيداً ومتفائلاً في كلّ شيء في تلك الفترة..
فجأة تغيّر الرجل الصلب. أصبح أكثر مرونة وأكثر دعابة في أوقات فراغه.
شيء ما كان يتغير تدريجياً داخله، ويجعله أقرب إلى الآخرين، وأكثر تفهماً لأوضاعهم الخاصة.
فقد أصبح يمنح البعض بسهولة أكثر تسريحات لزيارة خاطفة يقومون بها إلى أهلهم، هو الذي كان يبخل بها على نفسه. لقد غيّرته الأبوّة المتأخرة، التي جاءت رمزاً جاهزاً لمستقبل أجمل..
معجزة صغيرة للأمل.. كانت أنتِ.
طلع صباح آخر..
وها هو ذا النهار يفاجئني بضجيجه الاعتيادي، وبضوئه المباغت الذي يدخل النور إلى أعماقي غصباً عني، فأشعر أنه يختلس شيئاً مني.
في هذه اللحظة.. أكره هذا الجانب الفضولي والمحرج للشمس.
أريد أن أكتب عنك في العتمة. قصتي معك شريط مصور أخاف أن يحرقه الضوء ويلغيه، لأنك امرأة نبتت في دهاليزي السرية..
لأنك امرأة امتلكتها بشرعية السرية..
لا بد أن أكتب عنك بعد أن أسدل كلّ الستائر، وأغلق نوافذ غرفتي.
ورغم ذلك.. يسعدني في هذه اللحظة منظر الأوراق المكدسة أمامي، والتي ملأتها البارحة، في ليلة نذرتها للجنون. فقد أهديتها لك مغلّفة بصورة مهذبة في كتاب..
وأدري..
أدري أنَّك تكرهين الأشياء المهذّبة جداً.. وأنَّك أنانية جداً.. وأن لا شيء يعنيك في النهاية، خارج حدودك أنت.. وجسدك أنت.
ولكن قليلاً من الصبر سيّدتي.
صفحات أخرى فقط.. ثم أعرِّي أمامك ذاكرتي الأخرى. صفحات أخرى لا بد منها، قبل أن أملأك غروراً.. وشهوة.. وندماً وجنوناً. فالكتب كوجبات الحبّ.. لا بدّ لها من مقدّمات أيضاً.. وإن كنت أعترف أنّ "المقدمات" ليست مشكلتي الآن بقدر ما يربكني البحث عن منطلق لهذه القصة.
من أين أبدأ قصتي معك؟
ولقصتك معي عدّة بدايات، تبدأ مع النهايات غير المتوقعة ومع مقالب القدر.
وعندما أتحدث عنك.. عمّن تراني أتحدَّث؟ أعن طفلة كانت تحبو يوماً عند قدمي.. أم عن صبية قلبت بعد خمس وعشرين سنة حياتي.. أم عن امرأة تكاد تشبهك، أتأملها على غلاف كتاب أنيق عنوانه "منعطف النسيان" .. وأتساءل: أتراها حقاً.. أنتِ؟ وعندما أسميك فبأي اسم؟
تُرى أدعوك بذلك الاسم الذي أراده والدك، وذهبت بنفسي لأسجله نيابة عنه في سجلات البلدية، أم باسمك الأول، ذلك الذي حملته خلال ستة أشهر في انتظار اسم شرعي آخر؟ "حياة"..
سأدعوك هكذا.. ليس هذا اسمك على كل حال. إنه أحد أسمائك فقط.. فلأسمينَّك به إذن مادام هذا الاسم الذي عرفتك به، والاسم الذي أنفرد بمعرفته. اسمك غير المتداول على الألسنة، وغير المسجّل على صفحات الكتب والمجلات، ولا في أيّ سجلات رسمية.
الاسم الذي مُنحته لتعيشي وليمنحك الله الحياة والذي قتلته أنا ذات يوم، وأنا أمنحك اسماً رسمياً آخر، ومن حقي أن أحييه اليوم، لأنه لي ولم يُنادِكِ رجل قبلي يه.
اسمك الطفولي الذي يحبو على لساني، وكأنك أنت منذ خمس وعشرين سنة. وكلما لفظته، عدت طفلة تجلس على ركبتي وتعبث بأشيائي وتقول لي كلاماً لا أفهمه..
فأغفر لك لحظتها كلّ خطاياك.
كلما لفظته تدحرجت إلى الماضي، وعدت صغيرة في حجم دمية.. وإذا بك ابنتي.
هل أقرأ كتابك لأعرف كيف تحولت تلك الطفلة الصغيرة إلى امرأة؟ ولكنَّني أعرف مسبقاً أنك لن تكتبي عن طفولتك.. ولا عن سنواتك الأولى.
أنت تملئين ثقوب الذاكرة الفارغة بالكلمات فقط، وتتجاوزين الجراح بالكذب، وربما كان هذا سر تعلقك بي؛ أنا الذي أعرف الحلقة المفقودة من عمرك، وأعرف ذلك الأب الذي لم تريه سوى مرَّات قليلة في حياتك، وتلك المدينة التي كنت تسكنينها ولا تسكنك، وتعاملين أزقَََّتها دون عشق، وتمشين وتجيئين على ذاكرتها دون انتباه.
أنت التي تعلقتِ بي لتكتشفي ما تجهلينه.. وأنا الذي تعلّقت بك لأنسى ما كنت أعرفه.. أكان ممكناً لحبنا أن يدوم؟
كان (سي طاهر) طرفاً ثالثاً في قصتنا من البدء حتى عندما لا نتحدث عنه، كان بيننا حاضراً بغيابه، فهل أقتله مرة ثانية لأتفرَّد بك؟
آه لو تدرين.. لو تدرين ما أثقل حمل الوصايا، حتَّى بعد ربع قرن، وما أوجع الشهوة التي يواجهها أكثر من مستحيل وأكثر من مبدأ فلا يزيدها في النهاية إلا ... اشتهاء!
كان السؤال منذ البداية..
كيف لي أن ألغي (سي طاهر) م ذاكرتي، وألغي عمره من عمري، لأمنح حبّنا فرصة ولادة طبيعية؟
ولكن.. ما الذي سيبقى وقتها، لو أخرجتك من ذاكرتنا المشتركة وحولتك إلى فتاة عادية؟
كان والدك رفيقاً فوق العادة .. وقائداً فوق العادة.
كان استثنائياً في حياته وفي موته. فهل أنسى ذلك؟
لم يكن من المجاهدين الذين ركبوا الموجة الأخيرة، لضمنوا مستقبلهم، مجاهدي (62) وأبطال المعارك الأخيرة. ولا كان من شهداء المصادفة، الذين فاجأهم الموت في قصف عشوائي، أو في رصاصة خاطئة.
كان من طينة ديدوش مراد، ومن عجينة العربي بن مهيدي، ومصطفى بن بولعيد، الذين كانوا يذهبون إلى الموت ولا ينتظرون أن يأتيهم.
فهل أنسى أنّه والدك.. وسؤالك الدائم يعيد لاسمه هيبته حياً وشهيداً؟
فيرتبك القلب الذي أحبّك حدّ الجنون. ويبقى صدى سؤالك مائلاً... "حدثني عنه.."
سأحدثك عنه حبيبتي.. فلا أسهل من الحديث عن الشهداء. تاريخهم جاهز ومعروف مسبقاً كخاتمتهم. ونهايتهم تغفر لهم ما يمكن أن يكونوا قد ارتكبوا من أخطاء.
سأحدِّثك عن (سي طاهر)..
فوحده تاريخ الشهداء قابل للكتابة، وما تلاه تاريخ آخر يصادر الأحياء. وسيكتبه جيل لم يعرف الحقيقة ولكنه سيستنتجها تلقائياً.. فهناك علامات لا تخطئ.
مات (سي طاهر) طاهراً على عتبات الاستقلال. لا شيء في يده غير سلاحه. لا شيء في جيوبه غير أوراق لا قيمة لها.. لا شيء على أكتافه سوى وسام الشهادة.
الرموز تحمل قيمتها في موتها..
ووحدهم الذين ينوبون عنهم، يحملون قيمتهم في رتبهم وأوسمتهم الشرفيّة، وما ملأوا به جيوبهم على عجل من حسابات سرّية.
ست ساعات من الحصار والتطويق، ومنن القصف المركّز لدشرة بأكملها ليتمكن قتلته من نشر صورته على صفحات جرائد الغد كدليل على انتصاراتهم الساحقة على أحد المخرّبين و "الفلَّاقة" الذين أقسمت فرنسا أن تأتي عليهم..
أكان حقاً موت ذلك الرجل البسيط انتصاراً لقوة عظمى، كانت ستخسر بعد بضعة أشهر الجزائر بأكملها؟!
استشهد هكذا في صيف 1960، دون أن يتمتع بالنصر ولا بقطف ثماره.
ها هو رجل أعطى الجزائر كلّ شيء، ولم تعطه حتى فرصة أن يرى ابنه يمشي إلى جواره..
أو يراك أنت ربما طبيبة أو أستاذة كما كان يحلم.
كم أحبّك ذلك الرجل!
بجنون أبوّة الأربعين.. بحنان الذي كان يخفي خلف صرامته الكثير من الحنان، بأحلام الذي صودرت منه الأحلام، بزهو المجاهد الذي أدرك وهو يرى مولده الأول، أنه لن يموت تماماً بعد اليوم.
مازلت أذكر المرّات القليلة التي كان يحضر فيها إلى تونس لزيارتكم خلسة ليوم واحد أو ليومين.
وكنت وقتها أسرع إليه متلهِّفاً لسماع آخر الأخبار، وتطورات الأحداث على الجبهة. وأنا أجهد نفسي في الوقت نفسه حتى لا أسرق منه تلك الساعات القليلة النادرة، التي كان يغامر بحياته ليقضيها برفقة عائلته الصغيرة.
كنت أندهش وقتها، وأنا أكتشف فيه رجلاً آخر لا أعرفه.
رجل بثياب أخرى، بابتسامة وكلمات أخرى، وبجلسة يسهل له فيها إجلاسك على ركبته طوال الوقت لملاعبتك.
كان يعيش كل لحظة بأكملها، وكأنه يعتر من الزمن الشحيح كل قطرات السعادة؛ وكأنه يسرق من العمر مسبقاً، ساعات يعرفها معدودة؛ ويمنحك مسبقاً من الحنان زادك لعمر كامل.
كانت آخر مرة رأيته فيها، في يناير سنة 1960. وكان حضر ليشهد أهم حدث في حياته؛ ليتعرف على مولوده الثاني "ناصر"، فقد كانت أمنيته السرية أن يُرزق يوماً بكر. يومها لسبب غامض تأملته كثيراً.. وحدَّثته قليلاً.. وفضّلت أن أتركه لفرحته تلك، ولسعادته المسروقة. وعندما عدت في الغد، قيل لي إنّه عاد إلى الجبهة على عجل مؤكداً أنه سيعود قريباً لمدة أطول. ولم يعد..
انتهى بعد ذلك كرم القدر البخيل. فقد استشهد (سي طاهر) بعد بضعة أشهر دون أن يتمكن من رؤية ابنه مرّة ثانية.
كان ناصر آنذاك ينهي شهره الثامن، وأنت تدخلين عامك الخامس.
وكان الوطن في صيف 1960 بركاناً يموت ويولد كلّ يوم. وتتقاطع مع موته وميلاده، أكثر من قصة، بعضها مؤلم وبعضها مدهش..
وبعضها يأتي متأخراً كما جاءت قصتي التي تقاطعت يومها معك.
قصة فرعية، كتبت مسبقاً وحولت مسار حياتي بعد عمر بأكمله، بحكم شيء قد يكون اسمه القدر، وقد يكون العشق الجنوني..
ذاك الذي يفاجئنا من حيث لا نتوقع، متجاهلاً كلّ مبادئنا وقيمنا السابقة.
والذي يأتي متأخراً.. في تلك اللحظة التي لا نعود ننتظر فيها شيئاً؛ وإذا به يقلب فينا كلّ شيء.
فهل يمكن لي اليوم، بعدما قطعت بيننا الأيام جسور الكلام، أن أقاوم هذه الرغبة الجنونية لكتابة هاتين القصتين معاً، كما عشتهما معك ودونك، بعد ذلك بسنوات..
رغبةً.. وعشقاً.. وحلماً.. وحقداً.. وغيرةً.. وخيبةً.. وفجائع حدّ الموت. أنت التي كنت تحبّين الاستماع إليّ.. وتقلبينني كدفتر قديم للدهشة.
كان لا بد أن أكتب من أجلك هذا الكتاب، لأقول لك ما لم أجد متَّسعاً من العمر لأقوله.
سأحدثك عن الذين أحبّوك لأسباب مختلفة، وخنتهم لأسباب مختلفة أخرى.
سأحدثك حتى عن زياد، أما كنت تحبِّين الحديث عنه وتراوغين؟ لم يعد من ضرورة الآن للمراوغة.. لقد اختار كلّ منا قدره.
سأحدثك عن تلك المدينة التي كانت طرفاً في حبّنا، والتي أصبحت بعد ذلك سبباً في فراقنا، وانتهي فيها مشهد خرابنا الجميل.
فعمّ تراك ستتحدثين؟ عن أيّ رجل منَّا تراك كتبت؟ مَنْ منَّا أحببت؟ ومن.. منّا ستقتلين؟
ولمن تراك أخلصت، أنت التي تستبدلين حبّاً بحبّ، وذاكرة بأخرى، ومستحيلاً بمستحيل؟
وأين أنا في قائمة عشقك وضحاياك؟
تراني أشغل المكانة الأولى، لأنني أقرب إلى النسخة الأولى؟
تراني النسخة المزورة لـ (سي طاهر) تلك التي لم يحوّلها الاستشهاد إلى نسخة طبق الأصل؟
تراني الأبوة المزورة.. أم الحب المزوّر؟
أنت التي _كهذا الوطن_ تحترفين تزوير الأوراق وقلبها.. دون جهد.
كان "مونتيرلان" يقول:
"إذا كنت عاجزاً عن قتل من تدّعي كراهيته، فلا تقل إنَّك تكرهه: أنت تعهّر هذه الكلمة!".
دعيني أعترف لك أنني في هذه اللحظة أكرهك، وأنّه كان لا بدّ أن أكتب هذا الكتاب لأقتلك به أيضاً. دعيني أجرّب أسلحتك..
فربما كنت على حق.. ماذا لو كانت الروايات مسدّسات محشوّة بالكلمات القاتلة لا غير؟.
ولو كانت الكلمات رصاصاً أيضاً؟
ولكنَّني لن أستعمل معك مسدساً بكاتم صوت، على طريقتك.
لا يمكن لرجل يحمل السلاح بعد هذا العمر، أن يأخذ كلّ هذه الاحتياطات.
أريد لموتك وقعاً مدوياً قدر الإمكان..
فأنا أقتل معك أكثر من شخص، كان لا بد أن يجرؤ أحد على إطلاق النار عليهم يوماً.
فاقرأي هذا الكتاب حتى النهاية، بعدها قد تكفّين عن كتابة الروايات الوهمية.
وطالعي قصتنا من جديد..
دهشة بعد أخرى، وجرحاً بعد آخر، فلم يحدث لأدبنا التعيس هذا، أن عرف قصة أروع منها..
ولا شهد خراباً أجمل.
يتبع الفصل الثاني................









التعديل الأخير تم بواسطة القيصر ; 02-15-2011 الساعة 03:36 PM
  رد مع اقتباس
قديم منذ /02-18-2011   #12

خابورية جداً
عضو نشيط

الصورة الرمزية خابورية جداً

خابورية جداً غير متواجد حالياً

 رقم العضوية : 404
 تاريخ التسجيل : Sep 2009
 المشاركات : 174
 النقاط : خابورية جداً is on a distinguished road
 تقييم المستوى : 15

مزاجي:
افتراضي

موضوع غني وشامل .. القيصر لك الشكر الكثير على جهودك الواضحة في تجميع وتنسيق كل ما أوردته عن الكاتبة المميزة احلام مستغانمي والتي اثبتت انها وجه آخر للكتابة والادب العربي فتميزت بأسلوب فريد ونادر..وبرغم كل مايوجه لها من انتقادات الا اني احترم اسلوبها المميز في الطرح الذي تقدمه في رواياتها..
وقد صدر لها منذ سنة او اقل كتابين هما (نسيان.com) و (قلوبهم معنا وقنابلهم علينا)..حقيقة هذان الاصداران من اجمل ماكتبت احلام..
لك مني جزيل الشكر..وبانتظار القادم
7
7
7
قلوبهم معنا وقنابلهم علينا
للتحميل اضغط هنـــــــا












 
التوقيع - خابورية جداً


التعديل الأخير تم بواسطة خابورية جداً ; 02-18-2011 الساعة 12:36 AM
  رد مع اقتباس
قديم منذ /02-18-2011   #13

القيصر
التميز الحقيقي

الصورة الرمزية القيصر

القيصر غير متواجد حالياً

 رقم العضوية : 644
 تاريخ التسجيل : Apr 2010
 المشاركات : 1,245
 النقاط : القيصر is on a distinguished road
 تقييم المستوى : 16

مزاجي:
افتراضي

خابورية جدا"
شكرا" لك على مرورك وتعقيبك الواعي الذي حاكيت فيه معظم افكار من كانوا تراودهم فكرة النقد الذي يمس جوهر افكار الكاتبة المذكورة بالرغم من ابداعها الادبي .

شكرا" لاضافتك الرائعة .








  رد مع اقتباس
قديم منذ /02-19-2011   #14

القيصر
التميز الحقيقي

الصورة الرمزية القيصر

القيصر غير متواجد حالياً

 رقم العضوية : 644
 تاريخ التسجيل : Apr 2010
 المشاركات : 1,245
 النقاط : القيصر is on a distinguished road
 تقييم المستوى : 16

مزاجي:
افتراضي

الفصل الثاني

كان يوم لقائنا يوماً للدهشة..
لم يكن القدر فيه هو الطرف الثاني، كان منذ البدء الطرف الأول. أليس هو الذي أتى بنا من مدن أخرى، من زمن آخر وذاكرة أخرى، ليجمعنا في قاعة بباريس، في حفل افتتاح معرض للرسم؟
يومها كنت أنا الرسام، وكنت أنت زائرة فضولية على أكثر من صعيد.
لم تكوني فتاة تعشق الرسم على وجه التحديد. ولا كنت أنا رجلاً يشعر بضعف تجاه الفتيات اللائي يصغرنه عمراً. فما الذي قاد خطاك هناك ذلك اليوم؟.. وما الذي أوقف نظري طويلاً أمام وجهك؟
كنت رجلاً تستوقفه الوجوه، لأن وجوهنا وحدها تشبهنا، وحدها تفضحنا، ولذا كنت قادراً على أن أحبّ أو أكره بسبب وجه.
وبرغم ذلك، لست من الحماقة لأقول إنني أحبتك من النظرة الأولى. يمكنني أن أقول إنني أحبتك، ما قبل النظرة الأولى.
كان فيك شيء ما أعرفه، شيء ما يشدني إلى ملامحك المحببة إليّ مسبقاً، وكأنني أحببت يوماً امرأة تشبهك. أو كأنني كنت مستعداًَ منذ الأزل لأحبّ امرأة تشبهك تماماً.
كان وجهك يطاردني بين كلّ الوجوه، وثوبك الأبيض المتنقّل من لوحة إلى أخرى، يصبح لون دهشتي وفضولي..
واللون الذي يؤثّث وحده تلك القاعة الملأى.. بأكثر من زائر وأكثر من لون.
- هل يولد الحبّ أيضاً من لونٍ لم نكن نحبّه بالضرورة!_
وفجأة اقترب اللون الأبيض منّي، وراح يتحدث بالفرنسية مع فتاة أخرى لم ألاحظها من قبل..
ربَّما لأن الأبيض عندما يلبس شعراً طويلاً حالكاً، يكون قد غطَّى على كل الألوان..
قال الأبيض وهو يتأمل لوحة:
- Je prefere l'abstrait..!
وأجاب اللون الذي لا لون له:
- moi je prefere comprendre ce que je vois.
ولم تدهشني حماقة اللون الذي لا لون له، عندما يفضّل أن يفهم كلّ ما يرى..
أدهشني اللون الأبيض فقط.. فليس من طبعه أن يفضّل الغموض!
قبل ذلك اليوم، لم يحدث أن انحزت للون الأبيض.
لم يكن يوماً لوني المفضل.. فأنا أكره الألوان الحاسمة.
ولكنني آنذاك انحزت إليك دون تفكير.
ووجدتني أقول لتلك الفتاة، وكأنني أواصل جملة بدأتها أنتِ:
- الفن هو كل ما يهزنا.. وليس بالضرورة كلّ ما نفهمه!
نظرتما إليّ معاً بشيء من الدهشة، وقبل أن تقولي شيئاً، كانت عيناك تكتشفان في نظرة خاطفة، ذراع جاكيتي الفارغة والمختبئ كمّه بحياء في جيب سترتي.
كانت تلك بطاقة تعريفي وأوراقي الثبوتية.
مددت نحوي يدك مصافحة وقلت بحرارة فاجأتني:
- كنت أريد أن أهنّئك على هذا المعرض..
وقبل أن تصلني كلماتك.. كان نظري قد توقَّف عند ذلك السوار الذي يزين معصمك العاري الممدود نحوي.
كان إحدى الحليّ القسنطينية التي تُعرف من ذهبها الأصفر المضفور، ومن نقشتها المميزة. تلك "الخلاخل" التي لم يكن يخلو منها في الماضي، جهاز عروس ولا معصم امرأة من الشرق الجزائري.
مددت يدي إليك دون أن أرفع عيني تماماً عنه. وفي عمر لحظة، عادت ذاكرتي عمراً إلى الوراء. إلى معصم (أمّا) الذي لم يفارقه هذا السوار قط.
وداهمني شعور غامض، منذ متى لم يستوقف نظري سوار كهذا؟
لم أعد أذكر.. ربَّما منذ أكثر من ثلاثين سنة!
بكثير من اللباقة سحبت يدك التي كنت أشدّ عليها ربَّما دون أن أدري، وكأنني أمسك بشيء ما، استعدتِه فجأة.
وابتسمت لي..
رفعت عيني نحوك لأول مرة.
تقاطعت نظراتنا في نصف نظرة.
كنت تتأملين ذراعي الناقصة، وأتأمل سواراً بيدك.
كان كلانا يحمل ذاكرته فوقه..
وكان يمكن لنا أن نتعرف على بعضنا بهذه الطريقة فقط. ولكن كنت لغزاً لا تزيده التفاصيل إلا غموضاً. فرحت أراهن على اكتشافك. أتفحصك مأخوذاً مرتبكاً.. كأنني أعرفك وأتعرف عليك في آن واحد.
لم تكوني جميلة ذلك الجمال الذي يبهر، ذلك الجمال الذي يخيف ويربك.
كنت فتاة عاديّة، ولكن بتفاصيل غير عادية، بسرٍّ ما يكمن في مكان ما من وجهك.. ربَّما في جبهتك العالية وحاجبيك السميكين والمتروكين على استدارتهما الطبيعية. وربّما في ابتسامتك الغامضة وشفتيك المرسومتين بأحمر شفاه فاتح كدعوة سريّة لقبلة.
أو ربما في عينيك الواسعتين ولونهما العسليّ المتقلِّب.
وكنت أعرف هذه التفاصيل..
أعرفها.. ولكن كيف؟ وجاء صوتك بالفرنسية يخرجني من تفكيري قلت:
- يسعدني أن يصل فنان جزائري إلى هذه القمة من الإبداع..
ثم أضفت بمسحة خجل:
- في الحقيقة.. أنا لا أفهم كثيراً في الرسم، ولم أزر إلا نادراً معارض فنية، ولكن يمكنني أن أحكم على الأشياء الجميلة، ولوحاتك شي مميز.. كنّا في حاجة إلى شيء جديد بنكهة جزائرية معاصرة كهذه... لقد كنت أقول هذا لابنة عمي عندما فاجأتنا.
وعندما تقدمت تلك الفتاة مني لتصافحني، وتقدِّم لي نفسها، وكأنها بذلك ستصبح طرفاً في وقفتنا، وذلك الحوار الذي وجدت نفسها خارجه بعدما تجاهلتها منذ البدء دون أن أدري..
قالت وهي تعرّفني بنفسها:
- الآنسة عبد المولى. إني سعيدة بلقائك..
انتفضت لسماع ذلك الاسم.
ونظرت مدهوشاً إلى تلك الفتاة التي صافحتني بحرارة لا تخلو من شيء من الغرور..
تفحصتها وكأنني أكتشف وجودها، ثم عدت لأتأملك عساني أجد في ملامحك جواباً لدهشتي.
عبد المولى.... عبد المولى..
وراحت الذاكرة تبحث عن جواب لتلك المصادفة..
كنت أعرف عائلة عبد المولى جيداً.
إنهما أخوان لا أكثر. أحدهما (سي طاهر) استشهد منذ اكثر من عشرين سنة، وترك صبياً وبنتاً فقط.
والآخر (سي الشريف) تزوج قبل الاستقلال، و قد يكون له اليوم عدة أولاد وبنات..
فمن منكما ابنة (سي الطاهر)... تلك التي حملتُ اسمها وصية من الجبهة حتى تونس.. ونبت عن أبيها في دار البلدية، لتسجيلها رسمياً في سجلِّ الولادات؟
من منكما تلك الصغيرة التي قبّلتها نيابة عن أبيها، ولا عبتها ودلّلتها نيابة عنه؟
من منكما... أنتِ؟
وبرغم بعض الخطوط المشتركة لملامحكما، كنت أشعر أنَّك أنتِ.. لا تلك.
أو هكذا كنت أتمنى، وأنا أحلم قبل الأوان بقرابة ما تكون جمعتني بك.
وأندهش لهذه المصادفة، وأجد فجأة تبريراً لوجهك المحبّب إليّ مسبقاً. لقد كنت نسخة عن (سي طاهر)، نسخة أكثر جاذبية.
كنت أنثى.
ولكن.. أيعقل أن تكوني أنت الطفلة التي رأيتها لآخر مرة في تونس سنة (1962) غداة الاستقلال، عندما رحت أطمئن عليكم كالعادة، وأتابع بنفسي تفاصيل عودتكم إلى الجزائر؟ بعدما اتصل بي (سي الشريف) من قسنطينة، ليطلب مني بيع ذلك البيت الذي لم يعد هناك ضرورة لوجوده، والذي اشتراه (سي الطاهر) منذ عدّة سنوات ليهرّب إليه أسرته الصغيرة، عندما أبعدته فرنسا عن الجزائر في الخمسينيات، بعد عدة أشهر من السجن قضاها بتهمة التحريض السياسي.
كم كان عمرك وقتها؟
أيعقل أن تكوني تغيرت إلى هذا الحدّ.. وكبرت إلى هذا الحد.. خلال عشرين سنة؟!
رحت أتأملك مرة أخرى، وكأنني أرفض أن أعترف بعمرك، وربما أرفض أن أعترف بعمري وبالرجل الذي أصبحته منذ ذلك الزمن الذي يبدو لي اليوم غابراً.
ما الذي أوصلك إلى هذه المدينة.. وإلى هذه القاعة في هذا الزمن وهذا اليوم بالذات؟
يوم انتظرته طويلاً لسبب لا علاقة له بك..
وحسبت له ألف حساب لم تكوني ضمنه..
وتوقَّعت فيه كل المفاجآت إلا أن تكوني أنت مفاجأتي.
فجأة أذهلني اكتشافي، وخفت من مواجهة عينيك اللتين كانتا تتابعان بشيء من الدهشة ارتباكي. فقررت أن أطرح سؤالي بالمقلوب، وأنا أواصل حديثي مع الفتاة الأخرى التي قدّمت لي نفسها. كنت أعرف أنني إذا عرفتها سينحل اللغز، وأعرف تلقائياً من منكما.. أنتِ.
فقد كان لإحداكما اسم أعرفه منذ خمس وعشرين سنة، وعليّ فقط أن أتعرف على صاحبته.
سألتها:
- هل لديك قرابة بسي الشريف عبد المولى؟
أجابت بسعادة وكأنها تكتشف أن أمرها يعنيني:
- إنه أبي.. لقد تعذر عليه الحضور اليوم بسبب وصول وفد من الجزائر البارحة.. لقد حدّثنا عنك كثيراً. وقد أثار فضولنا لمعرفتك لدرجة قرّرنا أن نأتي مكانه اليوم لحضور الافتتاح!
كان كلام تلك الفتاة على تلقائيته يحمل لي جوابين. الأول أنها لم تكن أنت، والثاني سبب تخلف (سي الشريف).
كنت لاحظت غيابه وتساءلت عن سببه، هل كان المانع شخصياً، أم سياسياً.. أم تراه كان لسببٍ ما يتحاشى الظهور معي؟
كنت أدري أنّ طرقنا تقاطعت منذ سنين عندما دخل دهاليز اللعبة السياسية، وأصبح هدفه الوحيد الوصول إلى الصفوف الأمامية. ورغم ذلك لم يكن بإمكاني أن أتجاهل وجوده معي في المدينة نفسها. فقد كان جزءاً من شبابي وطفولتي.. وكان بعض ذاكرتي.
ولذا، ولأسباب عاطفية محض، كان الشخصية الجزائرية الوحيدة التي دعوتها.
لم ألتق به منذ عدة سنوات، ولكن أخباره كانت تصلني دائماً منذ عُيِّن، قبل سنتين، ملحقاً في السفارة الجزائرية، وهو منصب ككل المناصب "الخارجية"، يتطلب كثيراً من الوساطة والأكتاف العريضة.
وكان بإمكان (سي الشريف) أن يشق طريقه إلى هذا المنصب ولأهم منه بماضيه فقط، وباسمه الذي خلّده سي الطاهر باستشهاده. ولكن يبدو أن الماضي لم يكن كافياً بمفرده لضمان الحاضر، وكان عليه أن يتأقلم مع كلّ الرياح للوصول..
خطر ببالي كلّ ذلك، وأنا أحاول بدوري أن أتأقلم مع كل المفاجآت والانفعالات التي هزتني في بضع لحظات، والتي كانت بدايتها أنني وددت أن أسلم على فتاة جميلة تزور معرضي لا غير.. فإذا بي أسلّم على ذاكرتي!
وعدت إلى دهشتي الأولى معك..
إلى كل التفاصيل الأولى التي لفتت نظري إليك منذ البدء. إلى تلك اللوحة بالذات التي توقفت طويلاً أمامها. لقد كان هناك أكثر من قدر، أكثر من مكتوب.. أكثر من مصادفة.
أنتِ..
أكنت أنت.. في قاعة تتفرجين فيها على لوحاتي. تتأملين بعضها، تتوقفين عند بعضها الآخر، وتعودين إلى الدليل الذي تمسكيه بيدك لتتعرفي على أسماء اللوحات التي تلفت نظرك الأكثر؟
أنتِ..
تراك أنت.. نور آخر يضيء كل لوحة تمرين بها، فتبدو الأضواء الموجهة نحو اللوحات، وكأنها موجّهة نحوك.. وكأنك كنت اللوحة الأصلية.
أنت إذن..
تتوقفين أمام لوحة صغيرة لم تستوقف أحداً. تتأملينها بإمعان أكبر، تقتربين منها أكثر، وتبحثين عن اسمها في قائمة اللوحات.
ولحظتها سرت في جسدي قشعريرة مبهمة. واستيقظ فضول الرسّام المجنون داخلي..
من تكونين، أنت الواقفة أمام أحبّ لوحاتي ليّ..؟
رحت أتأملك مرتبكاً وأنت تتأملينها.. وتقولين لرفيقتك كلاماً لا يصلني شيء منه.
ما الذي أوقفك أمامها؟
لم تكن أجمل ما في القاعة من لوحات، كانت لوحتي الأولى وتمريني الأول في الرسم فقط..
ولكنني أصررت هذه المرة، على أن تكون حاضرة في معرضي الأهم هذا، لأنني اعتبرتها برغم بساطتها، معجزتي الصغيرة.
رسمتها منذ خمس وعشرين سنة، وكان مرَّ على بتر ذراعي اليسرى أقلّ من شهر.
لم تكن محاولة للإبداع ولا لدخول التاريخ. كانت محاولة للحياة فقط، والخروج من اليأس. رسمتها كما يرسم تلميذ في امتحان للرسم منظراً ليجيب على ورقة الأستاذ:
"ارسم أقرب منظر إلى نفسك".
إنها الجملة التي قالها لي ذلك الطبيب اليوغسلافي الذي قدم مع بعض الأطباء من الدول الاشتراكية إلى تونس، لمعالجة الجرحى الجزائريين، والذي أشرف على عملية بتر ذراعي وظل يتابع تطوراتي الصحية والنفسية فيما بعد.
يتبع ...........







  رد مع اقتباس
قديم منذ /02-19-2011   #15

أبو معن

أبو معن غير متواجد حالياً

 رقم العضوية : 824
 تاريخ التسجيل : Aug 2010
 الجنس : ~ MALE/FE-MALE ~
 المكان : دير الزور - سورية
 المشاركات : 73
 النقاط : أبو معن is on a distinguished road
 تقييم المستوى : 14

افتراضي

الشكر الجزيل لهذا الطرح و لتعريفنا بأدباء و أديبات من مجتمعنا المعاصر و خصوصا" لمن لايسعفه الوقت للبحث الأدبي(أمثالنا) ولذلك فان لك فضلا" علينا في اغناء المعرفة الأدبية لدينا و خصوصا" انك بدأت بنقل قصة ذاكرة الجسد على المنتدى فاعتبرني منذ البداية أحد الذين ينتظرون متابعة قراءة أحداثها خصوصا" و أنك قد شوقتنا للاطلاع عليها و شكرا مرة أخرى












 
التوقيع - أبو معن

(قل الله ثم استقم)


التعديل الأخير تم بواسطة أبو معن ; 02-20-2011 الساعة 08:51 AM سبب آخر: خطأ لغوي
  رد مع اقتباس
قديم منذ /02-23-2011   #16

القيصر
التميز الحقيقي

الصورة الرمزية القيصر

القيصر غير متواجد حالياً

 رقم العضوية : 644
 تاريخ التسجيل : Apr 2010
 المشاركات : 1,245
 النقاط : القيصر is on a distinguished road
 تقييم المستوى : 16

مزاجي:
افتراضي

كان يسألني كل مرة أزوره فيها عن اهتماماتي الجديدة، وهو يلاحظ إحباطي النفسي المستمر.
لم أكن مريضاً ليحتفظ بي الطبيب في مستشفى، ولا كنت معافى بمعنى الكلمة لأبدأ حياتي الجديدة.
كنت أعيش في تونس، ابناً لذلك الوطن وغريباً في الوقت نفسه؛ حراً ومقيداً في الوقت نفسه؛ سعيداً وتعيساً في الوقت نفسه.
كنت الرجل الذي رفضه الموت ورفضته الحياة. كنت كرة صوف متداخلة.. فمن أين يمكن لذلك الطبيب أن يجد رأس الخيط الذي يحلّ به كلّ عقدي؟
وعندما سألني ذات مرّة، وهو يكتشف ثقافتي، هل كنت أحبّ الكتابة أو الرسم، تمسكت بسؤاله وكأنني أتمسّك بقشه قد تنقذني من الغرق، وأدركت فوراً الوصفة الطبية التي كان يعدها لي.
قال:
- إن العملية التي أجريتها عليك، أجريت مثلها عشرات المرّات على جرحى كثيرين فقدوا في الحرب ساقاً أو ذراعاً، وإذا كانت العملية لا تختلف، فإنّ تأثيرها النفسي يختلف من شخص إلى آخر، حسب عمر المريض ووظيفته وحياته الاجتماعية.. وخاصة حسب مستواه الثقافي، فوحده المثقَّف يعيد النظر في نفسه كلّ يوم، ويعيد النظر في علاقته مع العالم ومع الأشياء كلما تغيّر شيء في حياته..
لقد أدركت هذا من تجربتي في هذا الميدان. لقد مرّت بي أكثر من حالة من هذا النوع، ولذا أعتقد أن فقدانك ذراعك قد أخلّ بعلاقتك بما هو حولك. وعليكم أن تعيد بناء علاقة جديدة مع العالم من خلال الكتابة أو الرسم..
عليك أن تختار ما هو اقرب إلى نفسك، وتجلس لتكتب دون قيود كلّ ما يدور في ذهنك. ولا تهمّ نوعية تلك الكتابات ولا مستواها الأدبي.. المهم الكتابة في حد ذاتها كوسيلة تفريغ، وأداة ترميم داخلي..
وإذا كنت تفضّل الرسم فارسم.. الرسم أيضاً قادر على أن يصالحك مع الأشياء ومع العالم الذي تغيّر في نظرك، لأنك أنت تغيّرت وأصبحت تشاهده وتلمسه بيدٍ واحدة فقط..
وكان يمكن أن أجيبه ذلك اليوم بتلقائية.. إنني أحبّ الكتابة، وأنها الأقرب إلى نفسي، مادمت لم أفعل شيئاً طوال حياتي، سوى القراءة التي تؤدي تلقائياً إلى الكتابة.
كان يمكن أن أجيبه كذلك، فقد تنبأ لي أساتذتي دائماً بمستقبل ناجح.. في الأدب الفرنسي!
ولهذا أجبته دون تفكير، أو ربما بموقف اكتشفت فيما بعد أنه كان جاهزاً في أعماقي:
- أفضل الرسم..
لم تقنعه جملتي المقتضبة فسألني إن كنت رسمت قبل اليوم..
قلت: "لا..".
قال: "إذن ابدأ برسم أقرب شيء إلى نفسك.. ارسم أحبّ شي إليك..".
وعندما ودّعني قال بسخرية الأطباء عندما يعترفون بعجزهم بلباقة: " ارسم.. فقد لا تكون في حاجة إليّ بعد اليوم!".
عدت يومها إلى غرفتي مسرعاً أريد أن أخلو لنفسي بين تلك الجداران البيضاء، التي كانت استمراراً لجدران مستشفى "الحبيب ثامر" الذي كان حتى ذلك الوقت، المكان الذي أعرفه الأكثر في تونس.
رحت يومها أتأمل تلك الجدران على غير عادتي، وأنا أفكر في كل ما يمكن أن أعلق عليها من لوحات بعد اليوم. كل وجوه من أحبّ.. كلّ الأزقة التي أحب.. كلّ ما تركته خلفي هناك.
نمت في تلك الليلة قلقاً، وربما لم أنم. كان صوت ذلك الطبيب يحضرني بفرنسيته المكسرة ليوقظني "ارسم". كنت أستعيده داخل بدلته البيضاء، يودعني وهو يشدّ على يدي "ارسم". فتعبر قشعريرة غامضة جسدي وأنا أتذكر في غفوتي أول سورة للقرآن. يوم نزل جبرائيل عليه السلام على محمد لأول مرة فقال له "اقرأ" فسأله النبي مرتعداً من الرهبة.. "ماذا أقرأ؟" فقال جبريل "اقرأ باسم ربّك الذي خلق" وراح يقرأ عليه أول سورة للقرآن. وعندما انتهى عاد النبي إلى زوجته وجسده يرتعد من هول ما سمع. وما كاد يراها حتى صاح "دثريني.. دثريني...".
كنت ذلك المساء أشعر برجفة الحمّى الباردة. وبرعشة ربما كان سببها توتري النفسي يومها، وقلقي بعد ذلك اللقاء الذي كنت أعرف أنه آخر لقاء لي مع الطبيب. وربما أيضاً بسبب ذلك الغطاء الخفيف الذي كان غطائي الوحيد في أوج الشتاء القارس، والذي لم يمنحني مستأجري البخيل غيره.
وكدت أصرخ وأنا أتذكر فراش طفولتي. وتلك "البطانية" الصوفية التي كانت غطائي في مواسم البرد القسنطيني، كدت أصرخ في ليل غربتي.. "دثريني قسنطينة.. دثريني.." ولكن لم أقل شيئاً ليلتها، لا لقسنطينة ولا لصاحب الغرفة البائس. احتفظت بحمَّاي وبرودتي لنفسي. صعب على رجل عائد لتوه من الجبهة، أن يعترف حتى لنفسه بالبرد..
انتظرت فقط طلوع الصباح لأشتري بما تبقى في جيبي من أوراق نقدية ما أحتاج إليه لرسم لوحتين أو ثلاث. ووقفت كمجنون على عجل أرسم "قنطرة الحبال" في قسنطينة..
أكان ذلك الجسر أحبّ شيء إليّ حقاً، لأقف بتلقائية لأرسمه وكأنني وقفت لأجتازه كالعادة؟ أم تراه كان أسهل شيء للرسم فقط؟
لا أدري..
أدري أنني رسمته مرات ومرات بعد ذلك، وكأنني أرسمه كل مرة لأول مرة. وكأنه أحب شيء لدي كل مرة.
خمس وعشرون سنة، عمر اللوحة التي أسميتها دون كثير من التفكير "حنين". لوحة لشاب في السابعة والعشرين من عمره، كان أنا بغربته وبحزنه وبقهره.
وها أنا ذا اليوم، في غربة أخرى وبحزن وبقهر آخر.. ولكن بربع قرن إضافي، كان لي فيه كثير من الخيبات والهزائم الذاتية.. وقليل من الانتصارات الاستثنائية.
ها أنا اليوم أحد كبار الرسامين الجزائريين، وربما كنت أكبرهم على الإطلاق؛ كما تشهد بذلك أقوال النقاد الغربيين الذين نقلت شهادتهم بحروف بارزة على بطاقات دعوة الافتتاح.
ها أنا اليوم... نبيّ صغير نزل عليه الوحي ذات خريف في غرفة صغيرة بائسة، في شارع "باب سويقة" بتونس.
ها أنا نبي خارج وطنه كالعادة.. وكيف لا ولا كرامة لنبي في وطنه؟
ها أنا "ظاهرة فنية؟، كيف لا وقدر ذي العاهة أن يكون "ظاهرة" وأن يكون جباراً ولو بفنه؟
ها أنا ذا..
فأين هو ذلك الطبيب الذي نصحني بالرسم ذات مرة؟ والذي صدقت نبوءته ولم احتاج إليه بعد ذلك اليوم؟ إنه الغائب الوحيد في هذه القاعة الشاسعة التي لم يسبق لأيّ عربي أن عرض فيها لوحاته قبلي. أين هو الدكتور "كابوتسكي" ليرى ماذا فعلت بيدٍ واحدة..
ذلك الذي لم أسأله يوماً ماذا فعل بيدي الأخرى!
وها هي "حنين" لوحتي الأولى، وجوار تاريخ رسمها (تونس 57) توقيعي الذي وضعته لأول مرة أسفل لوحة. تماماً كما وضعته أسفل اسمك، وتاريخ ميلادك الجديد، ذات خريف من سنة 1957، وأنا أسجِّلك في دار البلدية لأول مرة..
من منكما طفلتي.. ومن منكما حبيبتي؟ سؤال لم يخطر على بالي ذلك اليوم، وأنا أراك تقفين أمام تلك اللوحة لأول مرة..
لوحة في عمرك.. تكبرينها _ رسمياً _ ببضعة أيام.. وتصغرك في الواقع ببضعة أشهر لا غير.
لوحة كانت بدايتي مرتين.. مرة يوم أمسكت بفرشاة لأبدأ معها مغامرة الرسم.. ومرة يوم وقفت أنت أمامها، وإذا بي أدخل في مغامرة مع القدر...
على مفكرة ملأى بمواعيد وعناوين لا أهمية لها، وضعت دائرة حول تاريخ ذلك اليوم: نيسان 1981، وكأنني أريد أن أميزه عن بقية الأيام. قبل ذلك اليوم، لم أجد في سنواتي الماضية ما يستحق التميز.
فقد كانت أيامي مثل أوراق مفكرتي ملأى بمسودات لا تستحق الذكر. وكنت املأها غالباً كي لا أتركها بيضاء، فقد كان اللون الأبيض يخيفني دائماً عندما يكون على مساحة ورق.
ثماني مفكرات لثماني سنوات، لم يكن فيها ما يستحق الدهشة. جميعها صفحة واحدة لمفكرة واحدة لا تاريخ لها سوى الغربة. غربة كنت أحاول أن أختصرها بعملية حسابية كاذبة، تتحول فيها السنوات إلى ثماني مفكرات لا غير، مازالت مكدسة في خزانتي الواحدة فوق الأخرى... مسجلة لا حسب تواريخها الميلادية أو الهجرية.. إنما حسب أرقام سنوات هجرتي الاختيارية.
أضع دائرة حول تاريخ ذلك اليوم، وكأنني أغلق عليك داخل تلك الدائرة. كأنني أطوقك وأطارد ذكراك لتدخلي دائرة ضوئي إلى الأبد.
كنت أتصرف عن حدس مسبق، وكأن هذا التاريخ سيكون منعطفاً للذاكرة؛ كأنه سيكون ميلادي الآخر على يديك. وكنت أعي وقتها تماماً أن الولادة على يدك كالوصول إليك أمر لن يكون سهلاً.
يشهد على ذلك غياب رقمك الهاتفي وعنوانك من تلك الصفحة التي لم تكن تحمل في النهاية سوى تاريخ لقائك. فهل كان من المنطقي أن اطلب منك رقم هاتفك في لقائنا الأول أو صدفتنا الأولى تلك.. وبأي مبرر وبأية حجة سأفعل ذلك، وكلّ الأسباب تبدو ملفّقة عندما يطلب رجل من فتاة جميلة رقم هاتفها؟
كنت أشعر برغية في الجلوس إليك.. في التحدث والاستماع إليك.. عساني أتعرّف على النسخة الأخرى لذاكرتي. ولكن كيف أقنعك بذلك؟ كيف أشرح لك في لحظات أنني أعرف الكثير عنك، أنا الرجل الذي تقابلينه لأول مرة، والي تتحدثين إليه كما نتحدث بالفرنسية للغرباء بضمير الجمع.. فلا أملك إلا أن أجيبك بنفس كلام الغرباء بالجمع..
كانت الكلمات تتعثر يومها على لساني، وكأنني أتحدث لك بلغة لا أعرفها.. بلغة لا تعرف شيئاً عنّا. أيعقل بعد عشرين سنة أن أصافحك وأسألك بلغة فرنسية محايدة..
- Mais comment allez-vous mademoiselle?
فتردين عليّ بنفس المسافة اللغوية:
- Bien.. je vous remercie..
وتكاد تجهش الذاكرة بالبكاء.. تلك التي عرفتك طفلة تحبو.
تكاد ترتعش ذراعي الوحيدة وهي تقاوم رغبة جامحة لاحتضانك، وسؤالك بلهجة قسنطينية افتقدتها..
- واشك..؟
آه واشك.. أيتها الصغيرة التي كبرت في غفلة منِّي.. كيف أنت أيتها الزائرة الغريبة التي لم تعد تعرفني. يا طفلة تلبس ذاكرتي، وتحمل في معصمها سواراً كان لأمي؟
دعيني أضمّ كلّ من أحببتهم فيك. أتأملك وأستعيد ملامح (سي الطاهر) في ابتسامتك ولون عينيك. فما أجمل أن يعود الشهداء هكذا في طلّتك. ما أجمل أن تعود أمّي في سوار بمعصمك؛ ويعود الوطن اليوم في مقدمك. وما أجمل أن تكوني أنت.. هي أنت!
أتدرين..
(إذا صادف الإنسان شيء جميل مفرط في الجمال.. رغب في البكاء..)
ومصادفتك أجمل ما حلّ بي منذ عمر.
كيف أشرح لك كلّ هذا مرّة واحدة.. ونحن وقوف تتقاسمنا الأعين والأسماع؟
كيف أشرح لك أنني كنت مشتاقاً إليك دون أن أدري.. أنني كنت انتظرك دون أن أصدق ذلك؟
وأنه لا بد أن نلتقي.
أجمع حصيلة ذلك اللقاء الأول..
ربع ساعة من الحديث أو أكثر. تحدثت فيها أنا أكثر مما تحدثت أنت. حماقة ندمت عليها فيما بعد. كنت في الواقع أحاول أن أستبقيك بالكلمات. نسيت أن أمنحك فرصة أكثر للحديث.
كنت سعيداً وأنا أكتشف شغفك بالفنّ.. كنت على استعداد لمناقشتي طويلاً في كل لوحة، كان كل شيء معك قابلاً للجدل. وأمَّا أنا فكنت لحظتها لا أرغب سوى في الحديث عنك. وحده وجودك كان يثير شهيتي للكلام.
ولأنه لم يكن في الوقت متسع لأسرد عليك فصول قصتي المتقاطعة مع قصتك، اكتفيت بجملتين أو ثلاث عن علاقاتي القديمة بأبيك.. وعن طفولتك الأولى.. وعن لوحة قلت إنك أحببتها، وقلت لك إنها توأمك!
اخترت جملي بكثير من الاقتضاب.. وكثير من الذكاء. تركت بين الكلمات كثيراً من نقط الانقطاع.. لإشعارك بثقل الصمت الذي لم تملأه الكلمات.
لم أكن أريد أن أنفق ورقتي الوحيدة معك في يوم واحد على عجل.
كنت أريد أن أوقظ فضولك لمعرفتي أكثر، لكي أضمن عودتك لي ثانية. وعندما سألتني "هل ستكون موجوداً هنا طوال فترة المعرض؟" أدركت أنني نجحت في أول امتحان معك، وأنا أجعلك تفكرين في لقائي مرة ثانية. ولكنني قلت بصوت طبيعي لا علاقة له بزلازلي الداخلية:
"سأكون هنا بعد الظهر في أغلب الأحيان.." ثم أضفت وأنا أكتشف أن جوابي قد لا يشجعك على زيارة قد أكون غائباً عنها:
"ومن الأرجح أن أكون هنا كل يوم، فستكون لي مواعيد كثيرة مع الصحافيين والأصدقاء..".
كان في ذلك الكلام شيء من الحقيقة. ولكنني لم أكن في الواقع مضطراً للبقاء طوال الوقت في المعرض. كنت فقط أحاول ألا أجعلك تعودين عن قرارك لسبب ما.
قلت وأنت تتحدثين لي فجأة بطريقة الأصدقاء القدامى:
"قد أعود لزيارة المعرض يوم الاثنين القادم.. إنه اليوم الذي لا دروس لي فيه. في الحقيقة أنا حضرت اليوم عن فضول فقط.. ويسعدني أن أتحدث إليك أكثر..".
تدخلت ابنة عمك، وكأنها تعتذر، وربما تتحسر لأنها لن تكون طرفاً في ذلك اللقاء:
"خسارة.. إنه اليوم الأكثر مشاغل بالنسبة لي.. لن يمكنني أن أرافقك، ولكن قد أعود أنا أيضاً في يوم آخر." ثم التفت نحوي سائلة:
"متى ينتهي المعرض؟"
قلت:
"في 25 نيسان.. أي بعد عشرة أيام..".
صاحت:
"عظيم.. سأجد فرصة للعودة مرة أخرى.."
تنفست الصعداء.
المهم أن أراك مرة واحدة على انفراد، وبعدها سيصبح كلّ شيء أسهل.
تزودت منك بآخر نظرة، وأنت تصافحينني قبل أن تنسحبي.
كان في عينيك دعوة لشيء ما..
كان فيهما وعد غامض بقصة ما..
كان فيهما شيء من الغرق اللذيذ المحبب.. وربما نظرة اعتذار مسبقة عن كل ما سيحل بي من كوارث بعد ذلك بسببهما.
وكنت أعي في تلك اللحظة، وذلك اللون الأبيض يوليني ظهره ملتفّاً بشال شعره الأسود.. ويبتعد عني تدريجياً ليختلط بأكثر من لون، أنني سواء رأيتك أم لم أرك بعد اليوم، فقط أحببتك.. وانتهى الأمر.
غادرت القاعة إذن مثلما جئتِ.. ضوءاً يشق الطريق انبهاراً عند مروره.. متألقاً في انسحابه كما في قدومه.
يجر خلفه أكثر من قوس قزح.. وذيلاً من مشاريع الأحلام.
ما الذي أعرفه عنك؟
شيئان أو ثلاثة.. أعدتهما على نفسي بعد ذلك عدة مرات، لأقنع نفسي أنك لم تكوني "نجماً مذنباً" عابراً كذاك الذي يضيء في الأمسيات الصيفية، ويختفي قبل أن يتمكن الفلكيون من مطاردته بمنظارهم، والذي يسمونه في قواميس الفلك.. "النجم الهارب"!
لا.. لن تهربي مني، وتختفي في شوارع باريس وأزقتها المتشعبة بهذه السهولة. أعرف على الأقل أنك تعدين شهادة ما في المدرسة العليا للدراسات، وأنك في السنة الأخيرة للدراسة، وأنك في باريس منذ أربع سنوات، وتقيمين عند عمك منذ عينّ في باريس أي منذ سنتين. معلومات قد تكون هزيلة، ولكنها تكفي للعثور عليك بأية طريقة.
كانت الأيام الفاصلة بين يوم الجمعة ويوم الاثنين تبدو طويلة وكأنها لا تنتهي. وكنت بدأت في العدّ العكسي منذ تلك اللحظة التي غادرت فيها القاعة، رحت أعدّ الأيام الفاصلة بين يوم الجمعة ويوم الاثنين. تارة أعدّها فتبدو لي أربعة أيام، ثم أعود وأختصر الجمعة الذي كان على وشك أن ينتهي، والاثنين الذي سأراك فيه، فتبدو لي المسافة أقصر وأبدو أقدر على التحمل، إنها يومان فقط هما السبت والأحد.
ثم أعود فأعدّ الليالي.. فتبدو لي ثلاث ليالٍ كاملة، هي الجمعة والسبت والأحد، أتساءل وأنا أتوقع مسبقاً طولها، كيف سأقضيها؟ ويحضرني ذلك البيت الشعري القديم الذي لم أصدّقه من قبل:
أعدّ الليالي ليلة بعد ليلة ... وقد عشت دهراً لا أعد اللياليا
ترى أهكذا يبدأ الحب دائماً، عندما نبدأ في استبدال مقاييسنا الخاصة، بالمقاييس المتفق عليها، وإذا بالزمن فترة من العمر، لا علاقة لها بالوقت؟
في ذلك اليوم، سعدت وأنا أرى "كاترين" تدخل القاعة. جاءت متأخرة كما كنت أتوقع. أنيقة كما كنت أتوقع. داخل فستان أصفر ناعم، تطير داخله كفراشه. قالت وهي تضع قبلة على خدي:
- لقد وصلت متأخرة.. كان هناك ازدحام في الطريق كالعادة في مثل هذا الوقت.
كانت كاترين تسكن الضاحية الجنوبية لباريس. وكانت المواصلات تتضاعف في نهاية الأسبوع، في تلك الطرقات الرابطة بين باريس وضواحيها، والتي لم يكن ذلك السبب الوحيد لتأخرها. كنت أعرف أنها تكره اللقاءات العامة، أو تكره كما استنتجت أن تظهر معي في الأماكن العامة. ربما تخجل أن يراها بعض معارفها وهي مع رجل عربي، يكبرها بعشر سنوات، وينقصها بذراع!
كانت تحب أن تلتقي بي، ولكن دائماً في بيتي أو بيتها، بعيداً عن الأضواء، وبعيداً عن العيون، هنالك فقط كانت تبدو تلقائية في مرحها وفي تصرفها معي. ويكفي أن ننزل معاً لنتناول وجبة غداء في المطعم المجاور، ليبدو عليها شي من الارتباك والتصنع، ويصبح همّها الوحيد أن نعود إلى البيت.
وهكذا تعودت عندما تحضر أن أشتري مسبقاً ما يكفينا من الأكل لقضاء يوم أو يومين معاً. لم أعد أناقشها ولا أقترح عليها شيئاً. كان ذلك أوفر وأكثر راحة لي، فلماذا كلّ هذا الجدل؟
قالت كاترين بصوت أعلى من العادة وهي تمسك ذراعي وتلقي نظرة على اللوحات المعلقة التي كانت تعرفها جميعاً:
- برافو خالد، أهنئك.. رائع كلّ هذا.. أيها العزيز.
تعجبت شيئاً ما، كانت تتحدث هذه المرة وكأنها تريد أن يعرف الآخرون أنها صديقتي أو حبيبتي.. أو أي شيء من هذا القبيل.
ما الذي غيّر سلوكها فجأة، هل منظر ذلك الحشد من الشخصيات الفنية والصحافيين الذين حضروا الافتتاح.. أم أنها اكتشفت في هذا المكان، أنها كانت منذ سنتين تضاجع عبقرياً دون أن تدري، وأنَّ ذراعي الناقصة التي كانت تضايقها في ظروف أخرى، تأخذ هنا بعداً فنياً فريداً لا علاقة له بالمقاييس الجمالية؟
اكتشفت لحظتها، أنني خلال الخمس والعشرين سنة التي عشتها بذراع واحدة، لم يحدث أنني نسيت عاهتي إلا في قاعات العرض.
في تلك اللحظات التي كانت فيها العيون تنظر إلى اللوحات، وتنسى أن تنظر إلى ذراعي. أو ربما في السنوات الأولى للاستقلال.. وقتها كان للمحارب هيبته، ولمعطوبي الحروب شيء من القداسة بين الناس. كانوا يوحون بالاحترام أكثر مما يوحون بالشفقة. ولم تكن مطالباً بتقديم أي شرح ولا أي سرد لقصتك.
كنت تحمل ذاكرتك على جسدك، ولم يكون ذلك يتطلب أيّ تفسير.
اليوم بعد ربع قرن..، أنت تخجل من ذراع بدلتك الفارغ الذي تخفيه بحياء في جيب سترتك، وكأنك تخفي ذاكرتك الشخصية، وتعتذر عن ماضيك لكل من لا ماضي لهم.
يدك الناقصة تزعجهم. تفسد على البعض راحتهم. تفقدهم شهيتهم.
ليس هذا الزمن لك، إنه زمن لما بعد الحرب.
للبدلات الأنيقة والسيارات الفخمة.. والبطون المنتفخة. ولذا كثيراً ما تخجل من ذراعك وهي ترافقك في الميترو وفي المطعم وفي المقهى وفي الطائرة وفي حفل تدعى إليه. تشعر أن الناس ينتظرون منك في كلّ مرّة أن تسرد عليهم قصتك.
كلّ العيون المستديرة دهشة، تسألك سؤالاً واحداً تخجل الشفاه من طرحه: "كيف حدث هذا؟".
ويحدث أن تحزن، وأنت تأخذ الميترو وتمسك بيدك الفريدة الذراع المعلقة للركاب. ثم تقرأ على بعض الكراسي تلك العبارة:
"أماكن محجوزة لمعطوبي الحرب والحوامل..".
لا ليست هذه الأماكن لك. شي من العزّة، من بقايا شهامة، تجعلك تفضّل البقاء واقفاُ معلقاً بيد واحدة.
إنها أماكن محجوزة لمحاربين غيرك، حربهم لم تكن حربك، وجراحهم ربما كانت على يدك.
أما جراحك أنت.. فغير معترف بها هنا.
ها أنت أمام جدلية عجيبة..
تعيش في بلد يحترم موهبتك ويرفض جُروحك. وتنتمي لوطن، يحترم جراحك ويرفضك أنت. فأيهما تختار.. وأنت الرجل والجرح في آن واحد.. وأنت الذاكرة المعطوبة التي ليس هذا الجسد المعطوب سوى واجهة لها؟
أسئلة لم أكن أطرحها على نفسي في السابق. كنت أهرب منها بالعمل فقط، والخلق المتواصل، وذلك الأرق الداخلي الدائم.
كان داخلي شيء لا ينام، شيء يواصل الرسم دائماً وكأنه يواصل الركض بي ليوصلني إلى هذه القاعة، حيث سأعيش لأيام رجلاً عادياً بذراعين، أو بالأحرى رجلاً فوق العادة..
رجلاً يسخر من هذا العالم بيد واحدة. ويعيد عجن تضاريس الأشياء بيد واحدة.
ها أنا ذا في هذه القاعة إذن.. وها هوذا جنوني معلّق للفرجة على الجدران. تتفحصه العيون وتفسره الأفواه كيفما شاءت.. ولا أملك إلا أن أبتسم، وبعض تلك التعليقات المتناقضة تصل مسمعي. وأتذكر قولاً ساخراً لـ "كونكور":
"لا شي يسمع الحماقات الأكثر في العالم.. مثل لوحة في متحف!".
جاء صوت كاترين خافتاً وكأنها تتحدث لي وحدي هذه المرة:
- عجيب.. إنني أرى هذه اللوحات وكأنني لا أعرفها، إنها هنا تبدو مختلفة..
كدت أجيبها وأنا أواصل فكرة سابقة:
"إن للوحات مزاجها وعواطفها أيضاً.. إنها تماماً مثل الأشخاص. إنهم يتغيرون أول ما تضعينهم في قاعة تحت الأضواء!"
ولكنني لم أقل لها هذا.
قلت لها فقط:
- اللوحة أنثى كذلك.. تحبّ الأضواء وتتجمل لها، تحب أن ندلّلها ونمسح الغبار عنها، أن نرفعها عن الأرض ونرفع عنها اللحاف الذي نغطِّيها به... تحبّ أن نعلقها في قاعة لتتقاسمها الأعين حتى ولو لم تكن معجبة بها..
إنها تكره في الواقع أن تعامل بتجاهل لا غير..
قالت وهي تفكر:
- صحيح ما تقوله.. من أين تأتي بهذه الأفكار؟ أتدري أنني أحب الاستماع إليك؟ لا أفهم كيف لا نجد أبداً وقتاً للحديث عندما نلتقي.
وقبل أن أعلّق على سؤالها بجواب مقنع جداً.. أضافت بنوايا أعرفها وهي تضحك..
- متى ستعاملني أخيراً كلوحة؟
قلت وأنا أضحك لسرعة بداهتها.. ولشهيتها التي لا تشبع:
- هذا المساء إذا شئت..
وعندما أخذت كاترين منّي مفاتيح البيت، وطارت كفراشة داخل فستانها الأصفر نحو الباب.
قالت وكأنها شعرت فجأة بالغيرة من كل تلك اللوحات المعلقة بعناية على الجدران، والتي ما زال بعض الزوار يتأملونها:
- أنا متعبة بعض الشيء.. سأسبقك.
أكانت حقاً متعبة إلى هذا الحد، أم أصبحت فجأة تغار عليّ أو تغار منّي.. أم جاءتني بجوع مسبق؟. كالعادة، لم أحاول أن أتعمق في فهمها.
كنت أريد فقط أن أستعين بها لأنسى. كنت سعيداً أن أختصر معها يوماً أو يومين من الانتظار.. انتظارك أنت! وكنت في حاجة إلى ليلة حبّ بعد شهر من الوحدة، والركض لإعداد كلّ تفاصيل هذا المعرض.
لحقت بكاترين بعد ساعة.
كنت متعباً لأسباب كثيرة. أحدها لقائي العجيب بك وكلّ ما عشته من هزّات نفسية ذلك اليوم.
قالت وهي تفتح لي الباب:
- إنك لم تتأخر كثيراً..
قلت وأنا أداعبها:
- كان في ذهني مشروع لوحة.. فعدت مسرعاً إلى البيت.. الوحي لا ينتظر كثيراً كما تعلمين!
ضحكنا..
كان بيننا تواطؤ جسدي ما، يشيع بيننا تلك البهجة الثنائية، تلك السعادة السرية التي نمارسها دون قيود.. بشرعية الجنون!
ولكن شعرت لحظتها وهي جالسة في الأريكة المقابلة لي تشاهد الأخبار، وتلتهم (سندويتشاً) أحضرته معها، أنها امرأة كانت دائماً على وشك أن تكون حبيبتي، وأنها هذه المرّة _ كذلك _ لن تكونها!
إن امرأة تعيش على "السندويتشات" هي امرأة تعاني من عجز عاطفي، ومن فائض في الأنانية.. ولذا لا يمكنها أن تهب رجلاً ما يلزمه من أمان.
ليلتها، ادّعيت أنني لست جائعاً.
في الحقيقة كنت رافضاً وربما عاجزاً عن الانتماء لزمن "السندويتشات".
وبرغم ذلك..
حاولت ألا أتوقف عند تلك التفاصيل التي كانت تستفزّ بداوتي في أول الأمر.
تعوّدت منذ تعرفت على كاترين ألا أبحث كثيراً عن أوجه الاختلاف بيننا. أن أحترم طريقتها في الحياة، ولا أحاول أن أصنع منها نسخة منّي. بل إنني ربما كنت أحبها لأنها تختلف عني حدّ التناقض أحياناً.
فلا أجمل من أن تلتقي بضدك، فذلك وحده قادر على أن يجعلك تكتشف نفسك. وأعترف أنني مدين لكاترين بكثير من اكتشافاتي، فلا شيء كان يجمعني بهذه المرأة في النهاية، سوى شهوتنا المشتركة وحبنا المشترك للفن.
وكان كافياً لنكون سعيدين معاً.
تعودنا مع مرور الزمن ألا نزعج بعضنا بالأسئلة ولا بالتساؤلات. في البدء تأقلمت بصعوبة مع هذا النمط العاطفي الذي لا مكان فيه للغيرة ولا للامتلاك.
ثمَّ وجدت فيه حسنات كثيرة، أهمها الحرّيّة.. وعدم الالتزام بشيء تجاه أحد..
كان يحدث أن نلتقي مرّة في الأسبوع، كما يحدث أن تمرّ عدة أسابيع قبل أن نلتقي.. ولكن كنّا نلتقي دائماً بشوق وبرغبة مشتركة.
كانت كاترين تقول "ينبغي ألا نقتل علاقتنا بالعادة"، ولهذا أجهدت نفسي حتى لا أتعود عليها، وأن أكتفي بأن أكون سعيداً عندما تأتي، وأن أنسى أنها مرّت من هنا عندما ترحل.
في تلك المرة حاولت أن أستبقيها لقضاء كلّ نهاية الأسبوع معي، وسعدت أن تقبل عرضي بحماس.
كنت في الوقع أخاف أن أبقى وحيداً مع ساعتي الجدارية في انتظار يوم الاثنين.
ورغم أنّ كاترين ظلّت معي حتى عشية يوم الأحد، فإن الوقت بدا لي طويلاً، وربما بدا لي أكثر لأنها كانت معي. فقد بدأت فجأة أستعجل ذهابها وكأنني سأخلو بك عند ذلك.
كانت أفكاري تدور حول سؤال واحد..
يتبع.........












 
التوقيع - القيصر

http://up.arab-x.com/Oct11/4rc41652.gif

  رد مع اقتباس
قديم منذ /02-23-2011   #17

القيصر
التميز الحقيقي

الصورة الرمزية القيصر

القيصر غير متواجد حالياً

 رقم العضوية : 644
 تاريخ التسجيل : Apr 2010
 المشاركات : 1,245
 النقاط : القيصر is on a distinguished road
 تقييم المستوى : 16

مزاجي:
افتراضي

كان يسألني كل مرة أزوره فيها عن اهتماماتي الجديدة، وهو يلاحظ إحباطي النفسي المستمر.
لم أكن مريضاً ليحتفظ بي الطبيب في مستشفى، ولا كنت معافى بمعنى الكلمة لأبدأ حياتي الجديدة.
كنت أعيش في تونس، ابناً لذلك الوطن وغريباً في الوقت نفسه؛ حراً ومقيداً في الوقت نفسه؛ سعيداً وتعيساً في الوقت نفسه.
كنت الرجل الذي رفضه الموت ورفضته الحياة. كنت كرة صوف متداخلة.. فمن أين يمكن لذلك الطبيب أن يجد رأس الخيط الذي يحلّ به كلّ عقدي؟
وعندما سألني ذات مرّة، وهو يكتشف ثقافتي، هل كنت أحبّ الكتابة أو الرسم، تمسكت بسؤاله وكأنني أتمسّك بقشه قد تنقذني من الغرق، وأدركت فوراً الوصفة الطبية التي كان يعدها لي.
قال:
- إن العملية التي أجريتها عليك، أجريت مثلها عشرات المرّات على جرحى كثيرين فقدوا في الحرب ساقاً أو ذراعاً، وإذا كانت العملية لا تختلف، فإنّ تأثيرها النفسي يختلف من شخص إلى آخر، حسب عمر المريض ووظيفته وحياته الاجتماعية.. وخاصة حسب مستواه الثقافي، فوحده المثقَّف يعيد النظر في نفسه كلّ يوم، ويعيد النظر في علاقته مع العالم ومع الأشياء كلما تغيّر شيء في حياته..
لقد أدركت هذا من تجربتي في هذا الميدان. لقد مرّت بي أكثر من حالة من هذا النوع، ولذا أعتقد أن فقدانك ذراعك قد أخلّ بعلاقتك بما هو حولك. وعليكم أن تعيد بناء علاقة جديدة مع العالم من خلال الكتابة أو الرسم..
عليك أن تختار ما هو اقرب إلى نفسك، وتجلس لتكتب دون قيود كلّ ما يدور في ذهنك. ولا تهمّ نوعية تلك الكتابات ولا مستواها الأدبي.. المهم الكتابة في حد ذاتها كوسيلة تفريغ، وأداة ترميم داخلي..
وإذا كنت تفضّل الرسم فارسم.. الرسم أيضاً قادر على أن يصالحك مع الأشياء ومع العالم الذي تغيّر في نظرك، لأنك أنت تغيّرت وأصبحت تشاهده وتلمسه بيدٍ واحدة فقط..
وكان يمكن أن أجيبه ذلك اليوم بتلقائية.. إنني أحبّ الكتابة، وأنها الأقرب إلى نفسي، مادمت لم أفعل شيئاً طوال حياتي، سوى القراءة التي تؤدي تلقائياً إلى الكتابة.
كان يمكن أن أجيبه كذلك، فقد تنبأ لي أساتذتي دائماً بمستقبل ناجح.. في الأدب الفرنسي!
ولهذا أجبته دون تفكير، أو ربما بموقف اكتشفت فيما بعد أنه كان جاهزاً في أعماقي:
- أفضل الرسم..
لم تقنعه جملتي المقتضبة فسألني إن كنت رسمت قبل اليوم..
قلت: "لا..".
قال: "إذن ابدأ برسم أقرب شيء إلى نفسك.. ارسم أحبّ شي إليك..".
وعندما ودّعني قال بسخرية الأطباء عندما يعترفون بعجزهم بلباقة: " ارسم.. فقد لا تكون في حاجة إليّ بعد اليوم!".
عدت يومها إلى غرفتي مسرعاً أريد أن أخلو لنفسي بين تلك الجداران البيضاء، التي كانت استمراراً لجدران مستشفى "الحبيب ثامر" الذي كان حتى ذلك الوقت، المكان الذي أعرفه الأكثر في تونس.
رحت يومها أتأمل تلك الجدران على غير عادتي، وأنا أفكر في كل ما يمكن أن أعلق عليها من لوحات بعد اليوم. كل وجوه من أحبّ.. كلّ الأزقة التي أحب.. كلّ ما تركته خلفي هناك.
نمت في تلك الليلة قلقاً، وربما لم أنم. كان صوت ذلك الطبيب يحضرني بفرنسيته المكسرة ليوقظني "ارسم". كنت أستعيده داخل بدلته البيضاء، يودعني وهو يشدّ على يدي "ارسم". فتعبر قشعريرة غامضة جسدي وأنا أتذكر في غفوتي أول سورة للقرآن. يوم نزل جبرائيل عليه السلام على محمد لأول مرة فقال له "اقرأ" فسأله النبي مرتعداً من الرهبة.. "ماذا أقرأ؟" فقال جبريل "اقرأ باسم ربّك الذي خلق" وراح يقرأ عليه أول سورة للقرآن. وعندما انتهى عاد النبي إلى زوجته وجسده يرتعد من هول ما سمع. وما كاد يراها حتى صاح "دثريني.. دثريني...".
كنت ذلك المساء أشعر برجفة الحمّى الباردة. وبرعشة ربما كان سببها توتري النفسي يومها، وقلقي بعد ذلك اللقاء الذي كنت أعرف أنه آخر لقاء لي مع الطبيب. وربما أيضاً بسبب ذلك الغطاء الخفيف الذي كان غطائي الوحيد في أوج الشتاء القارس، والذي لم يمنحني مستأجري البخيل غيره.
وكدت أصرخ وأنا أتذكر فراش طفولتي. وتلك "البطانية" الصوفية التي كانت غطائي في مواسم البرد القسنطيني، كدت أصرخ في ليل غربتي.. "دثريني قسنطينة.. دثريني.." ولكن لم أقل شيئاً ليلتها، لا لقسنطينة ولا لصاحب الغرفة البائس. احتفظت بحمَّاي وبرودتي لنفسي. صعب على رجل عائد لتوه من الجبهة، أن يعترف حتى لنفسه بالبرد..
انتظرت فقط طلوع الصباح لأشتري بما تبقى في جيبي من أوراق نقدية ما أحتاج إليه لرسم لوحتين أو ثلاث. ووقفت كمجنون على عجل أرسم "قنطرة الحبال" في قسنطينة..
أكان ذلك الجسر أحبّ شيء إليّ حقاً، لأقف بتلقائية لأرسمه وكأنني وقفت لأجتازه كالعادة؟ أم تراه كان أسهل شيء للرسم فقط؟
لا أدري..
أدري أنني رسمته مرات ومرات بعد ذلك، وكأنني أرسمه كل مرة لأول مرة. وكأنه أحب شيء لدي كل مرة.
خمس وعشرون سنة، عمر اللوحة التي أسميتها دون كثير من التفكير "حنين". لوحة لشاب في السابعة والعشرين من عمره، كان أنا بغربته وبحزنه وبقهره.
وها أنا ذا اليوم، في غربة أخرى وبحزن وبقهر آخر.. ولكن بربع قرن إضافي، كان لي فيه كثير من الخيبات والهزائم الذاتية.. وقليل من الانتصارات الاستثنائية.
ها أنا اليوم أحد كبار الرسامين الجزائريين، وربما كنت أكبرهم على الإطلاق؛ كما تشهد بذلك أقوال النقاد الغربيين الذين نقلت شهادتهم بحروف بارزة على بطاقات دعوة الافتتاح.
ها أنا اليوم... نبيّ صغير نزل عليه الوحي ذات خريف في غرفة صغيرة بائسة، في شارع "باب سويقة" بتونس.
ها أنا نبي خارج وطنه كالعادة.. وكيف لا ولا كرامة لنبي في وطنه؟
ها أنا "ظاهرة فنية؟، كيف لا وقدر ذي العاهة أن يكون "ظاهرة" وأن يكون جباراً ولو بفنه؟
ها أنا ذا..
فأين هو ذلك الطبيب الذي نصحني بالرسم ذات مرة؟ والذي صدقت نبوءته ولم احتاج إليه بعد ذلك اليوم؟ إنه الغائب الوحيد في هذه القاعة الشاسعة التي لم يسبق لأيّ عربي أن عرض فيها لوحاته قبلي. أين هو الدكتور "كابوتسكي" ليرى ماذا فعلت بيدٍ واحدة..
ذلك الذي لم أسأله يوماً ماذا فعل بيدي الأخرى!
وها هي "حنين" لوحتي الأولى، وجوار تاريخ رسمها (تونس 57) توقيعي الذي وضعته لأول مرة أسفل لوحة. تماماً كما وضعته أسفل اسمك، وتاريخ ميلادك الجديد، ذات خريف من سنة 1957، وأنا أسجِّلك في دار البلدية لأول مرة..
من منكما طفلتي.. ومن منكما حبيبتي؟ سؤال لم يخطر على بالي ذلك اليوم، وأنا أراك تقفين أمام تلك اللوحة لأول مرة..
لوحة في عمرك.. تكبرينها _ رسمياً _ ببضعة أيام.. وتصغرك في الواقع ببضعة أشهر لا غير.
لوحة كانت بدايتي مرتين.. مرة يوم أمسكت بفرشاة لأبدأ معها مغامرة الرسم.. ومرة يوم وقفت أنت أمامها، وإذا بي أدخل في مغامرة مع القدر...
على مفكرة ملأى بمواعيد وعناوين لا أهمية لها، وضعت دائرة حول تاريخ ذلك اليوم: نيسان 1981، وكأنني أريد أن أميزه عن بقية الأيام. قبل ذلك اليوم، لم أجد في سنواتي الماضية ما يستحق التميز.
فقد كانت أيامي مثل أوراق مفكرتي ملأى بمسودات لا تستحق الذكر. وكنت املأها غالباً كي لا أتركها بيضاء، فقد كان اللون الأبيض يخيفني دائماً عندما يكون على مساحة ورق.
ثماني مفكرات لثماني سنوات، لم يكن فيها ما يستحق الدهشة. جميعها صفحة واحدة لمفكرة واحدة لا تاريخ لها سوى الغربة. غربة كنت أحاول أن أختصرها بعملية حسابية كاذبة، تتحول فيها السنوات إلى ثماني مفكرات لا غير، مازالت مكدسة في خزانتي الواحدة فوق الأخرى... مسجلة لا حسب تواريخها الميلادية أو الهجرية.. إنما حسب أرقام سنوات هجرتي الاختيارية.
أضع دائرة حول تاريخ ذلك اليوم، وكأنني أغلق عليك داخل تلك الدائرة. كأنني أطوقك وأطارد ذكراك لتدخلي دائرة ضوئي إلى الأبد.
كنت أتصرف عن حدس مسبق، وكأن هذا التاريخ سيكون منعطفاً للذاكرة؛ كأنه سيكون ميلادي الآخر على يديك. وكنت أعي وقتها تماماً أن الولادة على يدك كالوصول إليك أمر لن يكون سهلاً.
يشهد على ذلك غياب رقمك الهاتفي وعنوانك من تلك الصفحة التي لم تكن تحمل في النهاية سوى تاريخ لقائك. فهل كان من المنطقي أن اطلب منك رقم هاتفك في لقائنا الأول أو صدفتنا الأولى تلك.. وبأي مبرر وبأية حجة سأفعل ذلك، وكلّ الأسباب تبدو ملفّقة عندما يطلب رجل من فتاة جميلة رقم هاتفها؟
كنت أشعر برغية في الجلوس إليك.. في التحدث والاستماع إليك.. عساني أتعرّف على النسخة الأخرى لذاكرتي. ولكن كيف أقنعك بذلك؟ كيف أشرح لك في لحظات أنني أعرف الكثير عنك، أنا الرجل الذي تقابلينه لأول مرة، والي تتحدثين إليه كما نتحدث بالفرنسية للغرباء بضمير الجمع.. فلا أملك إلا أن أجيبك بنفس كلام الغرباء بالجمع..
كانت الكلمات تتعثر يومها على لساني، وكأنني أتحدث لك بلغة لا أعرفها.. بلغة لا تعرف شيئاً عنّا. أيعقل بعد عشرين سنة أن أصافحك وأسألك بلغة فرنسية محايدة..
- Mais comment allez-vous mademoiselle?
فتردين عليّ بنفس المسافة اللغوية:
- Bien.. je vous remercie..
وتكاد تجهش الذاكرة بالبكاء.. تلك التي عرفتك طفلة تحبو.
تكاد ترتعش ذراعي الوحيدة وهي تقاوم رغبة جامحة لاحتضانك، وسؤالك بلهجة قسنطينية افتقدتها..
- واشك..؟
آه واشك.. أيتها الصغيرة التي كبرت في غفلة منِّي.. كيف أنت أيتها الزائرة الغريبة التي لم تعد تعرفني. يا طفلة تلبس ذاكرتي، وتحمل في معصمها سواراً كان لأمي؟
دعيني أضمّ كلّ من أحببتهم فيك. أتأملك وأستعيد ملامح (سي الطاهر) في ابتسامتك ولون عينيك. فما أجمل أن يعود الشهداء هكذا في طلّتك. ما أجمل أن تعود أمّي في سوار بمعصمك؛ ويعود الوطن اليوم في مقدمك. وما أجمل أن تكوني أنت.. هي أنت!
أتدرين..
(إذا صادف الإنسان شيء جميل مفرط في الجمال.. رغب في البكاء..)
ومصادفتك أجمل ما حلّ بي منذ عمر.
كيف أشرح لك كلّ هذا مرّة واحدة.. ونحن وقوف تتقاسمنا الأعين والأسماع؟
كيف أشرح لك أنني كنت مشتاقاً إليك دون أن أدري.. أنني كنت انتظرك دون أن أصدق ذلك؟
وأنه لا بد أن نلتقي.
أجمع حصيلة ذلك اللقاء الأول..
ربع ساعة من الحديث أو أكثر. تحدثت فيها أنا أكثر مما تحدثت أنت. حماقة ندمت عليها فيما بعد. كنت في الواقع أحاول أن أستبقيك بالكلمات. نسيت أن أمنحك فرصة أكثر للحديث.
كنت سعيداً وأنا أكتشف شغفك بالفنّ.. كنت على استعداد لمناقشتي طويلاً في كل لوحة، كان كل شيء معك قابلاً للجدل. وأمَّا أنا فكنت لحظتها لا أرغب سوى في الحديث عنك. وحده وجودك كان يثير شهيتي للكلام.
ولأنه لم يكن في الوقت متسع لأسرد عليك فصول قصتي المتقاطعة مع قصتك، اكتفيت بجملتين أو ثلاث عن علاقاتي القديمة بأبيك.. وعن طفولتك الأولى.. وعن لوحة قلت إنك أحببتها، وقلت لك إنها توأمك!
اخترت جملي بكثير من الاقتضاب.. وكثير من الذكاء. تركت بين الكلمات كثيراً من نقط الانقطاع.. لإشعارك بثقل الصمت الذي لم تملأه الكلمات.
لم أكن أريد أن أنفق ورقتي الوحيدة معك في يوم واحد على عجل.
كنت أريد أن أوقظ فضولك لمعرفتي أكثر، لكي أضمن عودتك لي ثانية. وعندما سألتني "هل ستكون موجوداً هنا طوال فترة المعرض؟" أدركت أنني نجحت في أول امتحان معك، وأنا أجعلك تفكرين في لقائي مرة ثانية. ولكنني قلت بصوت طبيعي لا علاقة له بزلازلي الداخلية:
"سأكون هنا بعد الظهر في أغلب الأحيان.." ثم أضفت وأنا أكتشف أن جوابي قد لا يشجعك على زيارة قد أكون غائباً عنها:
"ومن الأرجح أن أكون هنا كل يوم، فستكون لي مواعيد كثيرة مع الصحافيين والأصدقاء..".
كان في ذلك الكلام شيء من الحقيقة. ولكنني لم أكن في الواقع مضطراً للبقاء طوال الوقت في المعرض. كنت فقط أحاول ألا أجعلك تعودين عن قرارك لسبب ما.
قلت وأنت تتحدثين لي فجأة بطريقة الأصدقاء القدامى:
"قد أعود لزيارة المعرض يوم الاثنين القادم.. إنه اليوم الذي لا دروس لي فيه. في الحقيقة أنا حضرت اليوم عن فضول فقط.. ويسعدني أن أتحدث إليك أكثر..".
تدخلت ابنة عمك، وكأنها تعتذر، وربما تتحسر لأنها لن تكون طرفاً في ذلك اللقاء:
"خسارة.. إنه اليوم الأكثر مشاغل بالنسبة لي.. لن يمكنني أن أرافقك، ولكن قد أعود أنا أيضاً في يوم آخر." ثم التفت نحوي سائلة:
"متى ينتهي المعرض؟"
قلت:
"في 25 نيسان.. أي بعد عشرة أيام..".
صاحت:
"عظيم.. سأجد فرصة للعودة مرة أخرى.."
تنفست الصعداء.
المهم أن أراك مرة واحدة على انفراد، وبعدها سيصبح كلّ شيء أسهل.
تزودت منك بآخر نظرة، وأنت تصافحينني قبل أن تنسحبي.
كان في عينيك دعوة لشيء ما..
كان فيهما وعد غامض بقصة ما..
كان فيهما شيء من الغرق اللذيذ المحبب.. وربما نظرة اعتذار مسبقة عن كل ما سيحل بي من كوارث بعد ذلك بسببهما.
وكنت أعي في تلك اللحظة، وذلك اللون الأبيض يوليني ظهره ملتفّاً بشال شعره الأسود.. ويبتعد عني تدريجياً ليختلط بأكثر من لون، أنني سواء رأيتك أم لم أرك بعد اليوم، فقط أحببتك.. وانتهى الأمر.
غادرت القاعة إذن مثلما جئتِ.. ضوءاً يشق الطريق انبهاراً عند مروره.. متألقاً في انسحابه كما في قدومه.
يجر خلفه أكثر من قوس قزح.. وذيلاً من مشاريع الأحلام.
ما الذي أعرفه عنك؟
شيئان أو ثلاثة.. أعدتهما على نفسي بعد ذلك عدة مرات، لأقنع نفسي أنك لم تكوني "نجماً مذنباً" عابراً كذاك الذي يضيء في الأمسيات الصيفية، ويختفي قبل أن يتمكن الفلكيون من مطاردته بمنظارهم، والذي يسمونه في قواميس الفلك.. "النجم الهارب"!
لا.. لن تهربي مني، وتختفي في شوارع باريس وأزقتها المتشعبة بهذه السهولة. أعرف على الأقل أنك تعدين شهادة ما في المدرسة العليا للدراسات، وأنك في السنة الأخيرة للدراسة، وأنك في باريس منذ أربع سنوات، وتقيمين عند عمك منذ عينّ في باريس أي منذ سنتين. معلومات قد تكون هزيلة، ولكنها تكفي للعثور عليك بأية طريقة.
كانت الأيام الفاصلة بين يوم الجمعة ويوم الاثنين تبدو طويلة وكأنها لا تنتهي. وكنت بدأت في العدّ العكسي منذ تلك اللحظة التي غادرت فيها القاعة، رحت أعدّ الأيام الفاصلة بين يوم الجمعة ويوم الاثنين. تارة أعدّها فتبدو لي أربعة أيام، ثم أعود وأختصر الجمعة الذي كان على وشك أن ينتهي، والاثنين الذي سأراك فيه، فتبدو لي المسافة أقصر وأبدو أقدر على التحمل، إنها يومان فقط هما السبت والأحد.
ثم أعود فأعدّ الليالي.. فتبدو لي ثلاث ليالٍ كاملة، هي الجمعة والسبت والأحد، أتساءل وأنا أتوقع مسبقاً طولها، كيف سأقضيها؟ ويحضرني ذلك البيت الشعري القديم الذي لم أصدّقه من قبل:
أعدّ الليالي ليلة بعد ليلة ... وقد عشت دهراً لا أعد اللياليا
ترى أهكذا يبدأ الحب دائماً، عندما نبدأ في استبدال مقاييسنا الخاصة، بالمقاييس المتفق عليها، وإذا بالزمن فترة من العمر، لا علاقة لها بالوقت؟
في ذلك اليوم، سعدت وأنا أرى "كاترين" تدخل القاعة. جاءت متأخرة كما كنت أتوقع. أنيقة كما كنت أتوقع. داخل فستان أصفر ناعم، تطير داخله كفراشه. قالت وهي تضع قبلة على خدي:
- لقد وصلت متأخرة.. كان هناك ازدحام في الطريق كالعادة في مثل هذا الوقت.
كانت كاترين تسكن الضاحية الجنوبية لباريس. وكانت المواصلات تتضاعف في نهاية الأسبوع، في تلك الطرقات الرابطة بين باريس وضواحيها، والتي لم يكن ذلك السبب الوحيد لتأخرها. كنت أعرف أنها تكره اللقاءات العامة، أو تكره كما استنتجت أن تظهر معي في الأماكن العامة. ربما تخجل أن يراها بعض معارفها وهي مع رجل عربي، يكبرها بعشر سنوات، وينقصها بذراع!
كانت تحب أن تلتقي بي، ولكن دائماً في بيتي أو بيتها، بعيداً عن الأضواء، وبعيداً عن العيون، هنالك فقط كانت تبدو تلقائية في مرحها وفي تصرفها معي. ويكفي أن ننزل معاً لنتناول وجبة غداء في المطعم المجاور، ليبدو عليها شي من الارتباك والتصنع، ويصبح همّها الوحيد أن نعود إلى البيت.
وهكذا تعودت عندما تحضر أن أشتري مسبقاً ما يكفينا من الأكل لقضاء يوم أو يومين معاً. لم أعد أناقشها ولا أقترح عليها شيئاً. كان ذلك أوفر وأكثر راحة لي، فلماذا كلّ هذا الجدل؟
قالت كاترين بصوت أعلى من العادة وهي تمسك ذراعي وتلقي نظرة على اللوحات المعلقة التي كانت تعرفها جميعاً:
- برافو خالد، أهنئك.. رائع كلّ هذا.. أيها العزيز.
تعجبت شيئاً ما، كانت تتحدث هذه المرة وكأنها تريد أن يعرف الآخرون أنها صديقتي أو حبيبتي.. أو أي شيء من هذا القبيل.
ما الذي غيّر سلوكها فجأة، هل منظر ذلك الحشد من الشخصيات الفنية والصحافيين الذين حضروا الافتتاح.. أم أنها اكتشفت في هذا المكان، أنها كانت منذ سنتين تضاجع عبقرياً دون أن تدري، وأنَّ ذراعي الناقصة التي كانت تضايقها في ظروف أخرى، تأخذ هنا بعداً فنياً فريداً لا علاقة له بالمقاييس الجمالية؟
اكتشفت لحظتها، أنني خلال الخمس والعشرين سنة التي عشتها بذراع واحدة، لم يحدث أنني نسيت عاهتي إلا في قاعات العرض.
في تلك اللحظات التي كانت فيها العيون تنظر إلى اللوحات، وتنسى أن تنظر إلى ذراعي. أو ربما في السنوات الأولى للاستقلال.. وقتها كان للمحارب هيبته، ولمعطوبي الحروب شيء من القداسة بين الناس. كانوا يوحون بالاحترام أكثر مما يوحون بالشفقة. ولم تكن مطالباً بتقديم أي شرح ولا أي سرد لقصتك.
كنت تحمل ذاكرتك على جسدك، ولم يكون ذلك يتطلب أيّ تفسير.
اليوم بعد ربع قرن..، أنت تخجل من ذراع بدلتك الفارغ الذي تخفيه بحياء في جيب سترتك، وكأنك تخفي ذاكرتك الشخصية، وتعتذر عن ماضيك لكل من لا ماضي لهم.
يدك الناقصة تزعجهم. تفسد على البعض راحتهم. تفقدهم شهيتهم.
ليس هذا الزمن لك، إنه زمن لما بعد الحرب.
للبدلات الأنيقة والسيارات الفخمة.. والبطون المنتفخة. ولذا كثيراً ما تخجل من ذراعك وهي ترافقك في الميترو وفي المطعم وفي المقهى وفي الطائرة وفي حفل تدعى إليه. تشعر أن الناس ينتظرون منك في كلّ مرّة أن تسرد عليهم قصتك.
كلّ العيون المستديرة دهشة، تسألك سؤالاً واحداً تخجل الشفاه من طرحه: "كيف حدث هذا؟".
ويحدث أن تحزن، وأنت تأخذ الميترو وتمسك بيدك الفريدة الذراع المعلقة للركاب. ثم تقرأ على بعض الكراسي تلك العبارة:
"أماكن محجوزة لمعطوبي الحرب والحوامل..".
لا ليست هذه الأماكن لك. شي من العزّة، من بقايا شهامة، تجعلك تفضّل البقاء واقفاُ معلقاً بيد واحدة.
إنها أماكن محجوزة لمحاربين غيرك، حربهم لم تكن حربك، وجراحهم ربما كانت على يدك.
أما جراحك أنت.. فغير معترف بها هنا.
ها أنت أمام جدلية عجيبة..
تعيش في بلد يحترم موهبتك ويرفض جُروحك. وتنتمي لوطن، يحترم جراحك ويرفضك أنت. فأيهما تختار.. وأنت الرجل والجرح في آن واحد.. وأنت الذاكرة المعطوبة التي ليس هذا الجسد المعطوب سوى واجهة لها؟
أسئلة لم أكن أطرحها على نفسي في السابق. كنت أهرب منها بالعمل فقط، والخلق المتواصل، وذلك الأرق الداخلي الدائم.
كان داخلي شيء لا ينام، شيء يواصل الرسم دائماً وكأنه يواصل الركض بي ليوصلني إلى هذه القاعة، حيث سأعيش لأيام رجلاً عادياً بذراعين، أو بالأحرى رجلاً فوق العادة..
رجلاً يسخر من هذا العالم بيد واحدة. ويعيد عجن تضاريس الأشياء بيد واحدة.
ها أنا ذا في هذه القاعة إذن.. وها هوذا جنوني معلّق للفرجة على الجدران. تتفحصه العيون وتفسره الأفواه كيفما شاءت.. ولا أملك إلا أن أبتسم، وبعض تلك التعليقات المتناقضة تصل مسمعي. وأتذكر قولاً ساخراً لـ "كونكور":
"لا شي يسمع الحماقات الأكثر في العالم.. مثل لوحة في متحف!".
جاء صوت كاترين خافتاً وكأنها تتحدث لي وحدي هذه المرة:
- عجيب.. إنني أرى هذه اللوحات وكأنني لا أعرفها، إنها هنا تبدو مختلفة..
كدت أجيبها وأنا أواصل فكرة سابقة:
"إن للوحات مزاجها وعواطفها أيضاً.. إنها تماماً مثل الأشخاص. إنهم يتغيرون أول ما تضعينهم في قاعة تحت الأضواء!"
ولكنني لم أقل لها هذا.
قلت لها فقط:
- اللوحة أنثى كذلك.. تحبّ الأضواء وتتجمل لها، تحب أن ندلّلها ونمسح الغبار عنها، أن نرفعها عن الأرض ونرفع عنها اللحاف الذي نغطِّيها به... تحبّ أن نعلقها في قاعة لتتقاسمها الأعين حتى ولو لم تكن معجبة بها..
إنها تكره في الواقع أن تعامل بتجاهل لا غير..
قالت وهي تفكر:
- صحيح ما تقوله.. من أين تأتي بهذه الأفكار؟ أتدري أنني أحب الاستماع إليك؟ لا أفهم كيف لا نجد أبداً وقتاً للحديث عندما نلتقي.
وقبل أن أعلّق على سؤالها بجواب مقنع جداً.. أضافت بنوايا أعرفها وهي تضحك..
- متى ستعاملني أخيراً كلوحة؟
قلت وأنا أضحك لسرعة بداهتها.. ولشهيتها التي لا تشبع:
- هذا المساء إذا شئت..
وعندما أخذت كاترين منّي مفاتيح البيت، وطارت كفراشة داخل فستانها الأصفر نحو الباب.
قالت وكأنها شعرت فجأة بالغيرة من كل تلك اللوحات المعلقة بعناية على الجدران، والتي ما زال بعض الزوار يتأملونها:
- أنا متعبة بعض الشيء.. سأسبقك.
أكانت حقاً متعبة إلى هذا الحد، أم أصبحت فجأة تغار عليّ أو تغار منّي.. أم جاءتني بجوع مسبق؟. كالعادة، لم أحاول أن أتعمق في فهمها.
كنت أريد فقط أن أستعين بها لأنسى. كنت سعيداً أن أختصر معها يوماً أو يومين من الانتظار.. انتظارك أنت! وكنت في حاجة إلى ليلة حبّ بعد شهر من الوحدة، والركض لإعداد كلّ تفاصيل هذا المعرض.
لحقت بكاترين بعد ساعة.
كنت متعباً لأسباب كثيرة. أحدها لقائي العجيب بك وكلّ ما عشته من هزّات نفسية ذلك اليوم.
قالت وهي تفتح لي الباب:
- إنك لم تتأخر كثيراً..
قلت وأنا أداعبها:
- كان في ذهني مشروع لوحة.. فعدت مسرعاً إلى البيت.. الوحي لا ينتظر كثيراً كما تعلمين!
ضحكنا..
كان بيننا تواطؤ جسدي ما، يشيع بيننا تلك البهجة الثنائية، تلك السعادة السرية التي نمارسها دون قيود.. بشرعية الجنون!
ولكن شعرت لحظتها وهي جالسة في الأريكة المقابلة لي تشاهد الأخبار، وتلتهم (سندويتشاً) أحضرته معها، أنها امرأة كانت دائماً على وشك أن تكون حبيبتي، وأنها هذه المرّة _ كذلك _ لن تكونها!
إن امرأة تعيش على "السندويتشات" هي امرأة تعاني من عجز عاطفي، ومن فائض في الأنانية.. ولذا لا يمكنها أن تهب رجلاً ما يلزمه من أمان.
ليلتها، ادّعيت أنني لست جائعاً.
في الحقيقة كنت رافضاً وربما عاجزاً عن الانتماء لزمن "السندويتشات".
وبرغم ذلك..
حاولت ألا أتوقف عند تلك التفاصيل التي كانت تستفزّ بداوتي في أول الأمر.
تعوّدت منذ تعرفت على كاترين ألا أبحث كثيراً عن أوجه الاختلاف بيننا. أن أحترم طريقتها في الحياة، ولا أحاول أن أصنع منها نسخة منّي. بل إنني ربما كنت أحبها لأنها تختلف عني حدّ التناقض أحياناً.
فلا أجمل من أن تلتقي بضدك، فذلك وحده قادر على أن يجعلك تكتشف نفسك. وأعترف أنني مدين لكاترين بكثير من اكتشافاتي، فلا شيء كان يجمعني بهذه المرأة في النهاية، سوى شهوتنا المشتركة وحبنا المشترك للفن.
وكان كافياً لنكون سعيدين معاً.
تعودنا مع مرور الزمن ألا نزعج بعضنا بالأسئلة ولا بالتساؤلات. في البدء تأقلمت بصعوبة مع هذا النمط العاطفي الذي لا مكان فيه للغيرة ولا للامتلاك.
ثمَّ وجدت فيه حسنات كثيرة، أهمها الحرّيّة.. وعدم الالتزام بشيء تجاه أحد..
كان يحدث أن نلتقي مرّة في الأسبوع، كما يحدث أن تمرّ عدة أسابيع قبل أن نلتقي.. ولكن كنّا نلتقي دائماً بشوق وبرغبة مشتركة.
كانت كاترين تقول "ينبغي ألا نقتل علاقتنا بالعادة"، ولهذا أجهدت نفسي حتى لا أتعود عليها، وأن أكتفي بأن أكون سعيداً عندما تأتي، وأن أنسى أنها مرّت من هنا عندما ترحل.
في تلك المرة حاولت أن أستبقيها لقضاء كلّ نهاية الأسبوع معي، وسعدت أن تقبل عرضي بحماس.
كنت في الوقع أخاف أن أبقى وحيداً مع ساعتي الجدارية في انتظار يوم الاثنين.
ورغم أنّ كاترين ظلّت معي حتى عشية يوم الأحد، فإن الوقت بدا لي طويلاً، وربما بدا لي أكثر لأنها كانت معي. فقد بدأت فجأة أستعجل ذهابها وكأنني سأخلو بك عند ذلك.
كانت أفكاري تدور حول سؤال واحد..












 
التوقيع - القيصر

http://up.arab-x.com/Oct11/4rc41652.gif

  رد مع اقتباس
قديم منذ /02-23-2011   #18

القيصر
التميز الحقيقي

الصورة الرمزية القيصر

القيصر غير متواجد حالياً

 رقم العضوية : 644
 تاريخ التسجيل : Apr 2010
 المشاركات : 1,245
 النقاط : القيصر is on a distinguished road
 تقييم المستوى : 16

مزاجي:
افتراضي

ماذا أقول لك لو انفردت بك يوم الاثنين؟ من أين أبدأ معك الحديث.. وكيف أقصّ عليك تلك القصة العجيبة، قصّتنا؟
كيف أغريك بالعودة من جديد لسماع بقيّتها؟
صباح الاثنين، لبست بدلتي الأجمل لموعدنا المحتمل. اخترت بذوق ربطة عنقي. وضعت عطري المفضّل، واتجهت نحو قاعة المعرض نحو الساعة العاشرة.
كان أمامي متَّسع من الوقت لأشرب قهوتي الصباحية في مقهى مجاور. فلم يكن يعقل أن تأتي قبل تلك الساعة، وحتى القاعة نفسها لم تكن تفتح أبوابها قبل العاشرة.
عندما دخلت القاعة، كنت أول من يطأها في ذلك الصباح. كان في الجو شحنة غامضة من الكآبة. لم يكن هناك من أضواء موجهة نحو اللوحات، ولا أيّ ضوء كهربائي يضيء السقف.
ألقيت نظرة خاطفة على الجدران.
ها هي لوحاتي تستيقظ كامرأة، بتلك الحقيقة الصباحية العارية دون زينة ولا مساحيق ولا "رتوش".
هاهي امرأة تتثاءب على الجدران بعد أمسية صاخبة.
اتجهت نحو لوحتي الصغيرة "حنين" أتفقدها وكأنني أتفقدك.
"صباح الخير قسنطينة.. كيف أنت يا جسري المعلق.. يا حزني المعلّق منذ ربع قرن؟".
ردّت عليّ اللوحة بصمتها المعتاد، ولكن بغمزة صغيرة هذه المرّة.
فابتسمت لها بتواطؤ.
إننا نفهم بعضنا أنا وهذه اللوحة "البلدي يفهم من غمزة!"
وكانت لوحة بلديّة مكابرة مثل صاحبها، عريقة مثله، تفهم بنصف غمزة!
رحت بعدها أتلهّى ببعض المشاغل التي كانت مؤجّلة منذ البارحة. طريقة مثل أخرى لكسب الوقت، والتفرّغ لك فيما بعد. وكان صوت داخليّ يلاحقني أثناء ذلك، ليذكرني أنك ستأتين، ويمنعني من التركيز على أي شيء.
ستأتي..
ستأتي.. ردّد الصوت ساعة وساعتين وأكثر.. ومرّ صبح ومرّ مساء ولم تأتِ.
حاولت أن أنشغل بلقاءات وتفاصيل يومية كثيرة، حاولت أن أنسى أنني هنا لانتظارك..
قابلت صحافياً وتحدثت لآخر دون أن تفارق عيناي الباب. كنت أترقّبك في كل خطوة..
وكلما تقدّم الوقت زاد يأسي.
وفجأة فتح الباب ليدخل منه.. سي الشريف!
نهضت إليه مسلّماً وأنا أخفي عنه دهشتي. تذكَّرت أغنية فرنسية يقول مطلعها "أردت أن أرى أختك.. فرأيت أمّك كالعادة..".
- ع السلامة يا سيدي.. عاش من شافك!
قالها وهو يحتضنني ويسلّم عليّ بحرارة. وأعترف برغم خيبتي أنه لم يحدث أن شعرت بسعادة وأنا أسلّم عليه مثل تلك المرة.
وقبل أن أسأله عن أخباره قال وهو يقدّم لي ذلك الصديق المشترك الذي كان يرافقه:
- شفت شكون جبتلك معايَ؟
صحت وأنا أنتقل من دهشة إلى أخرى:
- أهلاً سي مصطفى واش راك.. واش هاذ الطلة..
قال بمودة وهو يحتضنني بدوره:
- واش آسيدي.. لو كان ما نجيوكش ما نشوفوكش وإلا كيفاش؟
رحت أجامله.ز وأسأله بدوي عن أخباره وإن كنت أدري أنّ في مرافقة سي الشريف له وفي مبالغته في تكريمه دليلاً على أنه مرشح لمنصب وزاري ما كما تقول الإشاعات.
عاتبني سي الشريف بودّ أحسسته صادقاً:
- يا أخي.. أيعقل أن نسكن هذه المدينة معاً دون أن تفكّر في زيارتي مرّة واحدة؟. أنا هنا منذ سنتين وعنواني معروف عندك.
تدخّل سي مصطفى ليضيف بتلميح سياسي بين المزاح والجد:
- واش راك مقاطعنا.. وإلا كيفاش هاذا الغيبة..؟
أجبته بصدق:
- لا أبداً.. ولكن ليس من السهل على شخص سكنته الغربة أن يجمع أشياءه هكذا ويعود.. في الحقيقة "المنفى عادة سيّئة يتخذها الإنسان" وقد أصبحت لي أكثر من عادة سيئة هنا..
ضحكنا.. وتشعّب بنا الحديث في مواضيع أخرى تطرقنا إليها عبوراً ومجاملة فقط..
وكان لا بد أن يتوقّفا بعد ذلك أمام إحدى اللوحات وهما يقومان بجولة لمشاهدة المعرض. لأفهم سرّ زيارة سي مصطفى لمعرضي، والتي تعود لكونه يريد أن يشتري لوحة أو لوحتين منّي. قال:
- أريد أن أحتفظ منك بشيء للذكرى.. ألا تذكر أنَّك بدأت الرسم يوم كنّا معاً في تونس؟ مازلت أذكر حتَّى لوحاتك الأولى.. لقد كنت أول من أريته لوحاتك وقتها.. هل نسيت؟
لا لم أنسَ.. وكم كنت أتمنى لحظتها لو أستطيع ذلك. شعرت بشيء من الإحراج وهو يستدرجني لتلك الفترة..
كان سي مصطفى صديقاً مشتركاً لي ولسي الشريف منذ أيام التحرير. فقد كان ضمن المجموعة التي كانت تعمل تحت قيادة سي الطاهر. بل، وكان واحداً من الجرحى الذين نقلوا معي للعلاج إلى تونس، حيث قضى ثلاثة أشهر في المستشفى عاد بعدها إلى الجبهة، ليبقى حتى الاستقلال في صفوف جيش التحرير، ويعود برتبة رائد.
كان يومها بشهامة وأخلاق نضالية عالية. وكنت في الماضي أكنُّ له احتراماً وودّاً كبيرين. ثم تلاشى تدريجياً رصيده عندي.. كلما امتلأ رصيده الآخر بأكثر من طريقة وأكثر من عملة، مثله مثل من سبقوه إلى تلك المناصب الحلوب التي تناوب عليها البعض بتقسيم مدروس للوليمة..
ولكن كان أمره هو بالذات يعنيني ويحزنني. فقد كان رفيق سلاحي لسنتين كاملتين.. وكان بيننا تفاصيل صغيرة جمعتنا في الماضي ولا يمكن للذاكرة رغم كلّ شيء أن تتجاهلها.
لعلّ أكثر تلك التفاصيل تأثيراً، تلك المصادفة التي جعلت الممرِّضة في تونس تعطيني وأنا أغادر المستشفى ثيابه التي وصل بها، والتي جف عليها دمه منذ عدّة أيّام.
كان في جيب سترته يومها بطاقة تعريفه التي تكاد لا تقرأ، من آثار بقع الدم عليها. والتي احتفظت بها لأعيدها إليه فيما بعد.. ولكنه عاد بعد ذلك إلى الجبهة دون أن يدري حتى أنها كانت في حوزتي، وربما دون أن يسأل عنها. فقد كان ذاهباً إلى مكان لا يحتاج فيه إلى بطاقة تعريف.
سنة 1973 عثرت مصادفة على تلك البطاقة ضمن أوراقي القديمة. وكنت آنذاك أجمع أشيائي استعداداً للرحيل..
تردّدت بين أن أحتفظ بها أو أعيدها إليه، فقد كنت أدري أنَّ تلك الهوية لم تعد في الواقع هويته. ولكنني كنت أريد أن أواجهه بالذاكرة.. دون أيّ تعليق.
وربما كنت أريد كذلك وأنا على أبواب المنفى أن أنهي علاقاتي بتلك البطاقة التي رافقتني منذ 1975 من بلد إلى آخر، وكأنني أنهي علاقاتي بالوطن، وأضعه أخيراً هو وأشياءه خارج الذاكرة..
يومها دهش سي مصطفى وأنا أخرج من جيب سترتي تلك البطاقة وأضعها أمامه، بعد ست عشرة سنة.
أهو الذي ارتبك لحظتها.. أم أنا؟
شعرت فجأة وأنا أنفصل عنها أنني أعطيته شيئاً كان ملتصقاً بصدري؛ شيئاً منّي، ربما ذراعي الأخرى، أو أيّ شيء كان لي..
كان أنا!
ولكنني وجدت آنذاك في فرحته عزائي.. وفي احتضانه لي بذلك العنفوان الأول الذي جمعنا يوماً، مكافأة للذاكرة ووهماً ما بإمكانية إيقاظ ذلك الرجل الآخر داخله.
ها هو سي مصطفى بعد سنوات، يتأمل لوحة لي وأتأمله. لقد مات فيه الرجل "الآخر".. فكيف راهنت يوماً عليه؟
في هذه اللحظة، لا شيء يعنيه سوى امتلاك لوحة لي؛ وربما كان مستعداً أن يدفع أيّ ثمن مقابلها. فمن المعروف عنه أنه لا يحسب كثيراً في هذه الحالات، مثله مثل بعض السياسيين والأثرياء الجزائريين الجدد الذين شاعت وسطهم عدوى اقتناء اللوحات الفنية، لأسباب لا علاقة لها غالباً بالفنّ، وإنما بعقلية جديدة للنهب الفنيّ أيضاً.. وبهاجس الانتساب للنخبة.
وربما كان أكثر سخاءً معي أنا بالذات، للأسباب نفسها التي تجعلني اليوم أكثر رفضاً له.
لقد قرّر أن يستبدل بتلك البطاقة المهترئة، لوحة (أكواريل) يفاخر بها.. فهل يتساوى الدم بالألوان المائية.. ولو بعد ربع قرن!
سعدت بعدها وأنا أتخلص منه ومن سي الشريف دون أن يأخذا على خاطرهما.. ودون أن أتنازل عن ذلك المبدأ الذي حدث أن جعت بسببه. فلا يمكن لي أن آكل من الخبز الملوّث. هناك من يولدون هكذا بهذه الحساسية التي لا شفاء منها تجاه كلّ ما هو قذر!
كنت في الواقع على عجل. أريد أن أنتهي منهما بسرعة.. خشية أن تأتي في تلك اللحظة ويكونا هناك.
وكنت قلقاً ومبعثراً بين الأحاسيس التي استدرجتني إليها سي مصطفى بعد كلّ تلك السنوات.. وبين هاجس قدومك، الذي أرهقني انتظاره منذ أيام.. ولكنك لم تأتي.. لا أثناء ذلك ولا بعده.
من أين هجمت عليّ كلّ تلك الكآبة بعد ذلك؟
وإذا بقدميّ تقودانني بخطى مثقلة، محبطة، إلى البيت، بعدما كانتا قد حملتاني إلى هنا، على أجنحة الشوق الجارف.
ماذا لو لم أرك مرّة أخرى.. لو انتهى ذلك المعرض ولم تعودي؟.
ماذا لو كان حديثك عن زيارتك المحتملة مجرد مجاملة، أخذتها أنا مأخذ الجد؟
كيف يمكن لي وقتها أن أطارد نجمك المذنّب الهارب؟
وحدها تلك البطاقة التي أعطاني إيّاها سي الشريف وهو يودّعني كانت تبعث شيئاً من الأمل في نفسي. فقد كنت أعرف أخيراً الأرقام السرية التي توصلني إليك، فنمت وأنا أخطط لمبرر هاتفي قد يجمعني بك. ولكنّ الحب عندما يأتي لا يبحث له عن مبرر، ولا يأخذ له موعداً.. ولذا ما كدت في اليوم التالي أدخل القاعة وأجلس في الصالون لأطالع جريدتي، حتى رأيتك تدخلين.
كنت تتقدمين نحوي، وكان الزمن يتوقف انبهاراً بك.
وكان الحبّ الذي تجاهلني كثيراً قبل ذلك اليوم.. قد قرر أخيراً أن يهبني أكثر قصصه جنوناً..

الى لقاء قريب مع الفصل الثالث












 
التوقيع - القيصر

http://up.arab-x.com/Oct11/4rc41652.gif

  رد مع اقتباس
قديم منذ /02-23-2011   #19

القيصر
التميز الحقيقي

الصورة الرمزية القيصر

القيصر غير متواجد حالياً

 رقم العضوية : 644
 تاريخ التسجيل : Apr 2010
 المشاركات : 1,245
 النقاط : القيصر is on a distinguished road
 تقييم المستوى : 16

مزاجي:
افتراضي

ماذا أقول لك لو انفردت بك يوم الاثنين؟ من أين أبدأ معك الحديث.. وكيف أقصّ عليك تلك القصة العجيبة، قصّتنا؟
كيف أغريك بالعودة من جديد لسماع بقيّتها؟
صباح الاثنين، لبست بدلتي الأجمل لموعدنا المحتمل. اخترت بذوق ربطة عنقي. وضعت عطري المفضّل، واتجهت نحو قاعة المعرض نحو الساعة العاشرة.
كان أمامي متَّسع من الوقت لأشرب قهوتي الصباحية في مقهى مجاور. فلم يكن يعقل أن تأتي قبل تلك الساعة، وحتى القاعة نفسها لم تكن تفتح أبوابها قبل العاشرة.
عندما دخلت القاعة، كنت أول من يطأها في ذلك الصباح. كان في الجو شحنة غامضة من الكآبة. لم يكن هناك من أضواء موجهة نحو اللوحات، ولا أيّ ضوء كهربائي يضيء السقف.
ألقيت نظرة خاطفة على الجدران.
ها هي لوحاتي تستيقظ كامرأة، بتلك الحقيقة الصباحية العارية دون زينة ولا مساحيق ولا "رتوش".
هاهي امرأة تتثاءب على الجدران بعد أمسية صاخبة.
اتجهت نحو لوحتي الصغيرة "حنين" أتفقدها وكأنني أتفقدك.
"صباح الخير قسنطينة.. كيف أنت يا جسري المعلق.. يا حزني المعلّق منذ ربع قرن؟".
ردّت عليّ اللوحة بصمتها المعتاد، ولكن بغمزة صغيرة هذه المرّة.
فابتسمت لها بتواطؤ.
إننا نفهم بعضنا أنا وهذه اللوحة "البلدي يفهم من غمزة!"
وكانت لوحة بلديّة مكابرة مثل صاحبها، عريقة مثله، تفهم بنصف غمزة!
رحت بعدها أتلهّى ببعض المشاغل التي كانت مؤجّلة منذ البارحة. طريقة مثل أخرى لكسب الوقت، والتفرّغ لك فيما بعد. وكان صوت داخليّ يلاحقني أثناء ذلك، ليذكرني أنك ستأتين، ويمنعني من التركيز على أي شيء.
ستأتي..
ستأتي.. ردّد الصوت ساعة وساعتين وأكثر.. ومرّ صبح ومرّ مساء ولم تأتِ.
حاولت أن أنشغل بلقاءات وتفاصيل يومية كثيرة، حاولت أن أنسى أنني هنا لانتظارك..
قابلت صحافياً وتحدثت لآخر دون أن تفارق عيناي الباب. كنت أترقّبك في كل خطوة..
وكلما تقدّم الوقت زاد يأسي.
وفجأة فتح الباب ليدخل منه.. سي الشريف!
نهضت إليه مسلّماً وأنا أخفي عنه دهشتي. تذكَّرت أغنية فرنسية يقول مطلعها "أردت أن أرى أختك.. فرأيت أمّك كالعادة..".
- ع السلامة يا سيدي.. عاش من شافك!
قالها وهو يحتضنني ويسلّم عليّ بحرارة. وأعترف برغم خيبتي أنه لم يحدث أن شعرت بسعادة وأنا أسلّم عليه مثل تلك المرة.
وقبل أن أسأله عن أخباره قال وهو يقدّم لي ذلك الصديق المشترك الذي كان يرافقه:
- شفت شكون جبتلك معايَ؟
صحت وأنا أنتقل من دهشة إلى أخرى:
- أهلاً سي مصطفى واش راك.. واش هاذ الطلة..
قال بمودة وهو يحتضنني بدوره:
- واش آسيدي.. لو كان ما نجيوكش ما نشوفوكش وإلا كيفاش؟
رحت أجامله.ز وأسأله بدوي عن أخباره وإن كنت أدري أنّ في مرافقة سي الشريف له وفي مبالغته في تكريمه دليلاً على أنه مرشح لمنصب وزاري ما كما تقول الإشاعات.
عاتبني سي الشريف بودّ أحسسته صادقاً:
- يا أخي.. أيعقل أن نسكن هذه المدينة معاً دون أن تفكّر في زيارتي مرّة واحدة؟. أنا هنا منذ سنتين وعنواني معروف عندك.
تدخّل سي مصطفى ليضيف بتلميح سياسي بين المزاح والجد:
- واش راك مقاطعنا.. وإلا كيفاش هاذا الغيبة..؟
أجبته بصدق:
- لا أبداً.. ولكن ليس من السهل على شخص سكنته الغربة أن يجمع أشياءه هكذا ويعود.. في الحقيقة "المنفى عادة سيّئة يتخذها الإنسان" وقد أصبحت لي أكثر من عادة سيئة هنا..
ضحكنا.. وتشعّب بنا الحديث في مواضيع أخرى تطرقنا إليها عبوراً ومجاملة فقط..
وكان لا بد أن يتوقّفا بعد ذلك أمام إحدى اللوحات وهما يقومان بجولة لمشاهدة المعرض. لأفهم سرّ زيارة سي مصطفى لمعرضي، والتي تعود لكونه يريد أن يشتري لوحة أو لوحتين منّي. قال:
- أريد أن أحتفظ منك بشيء للذكرى.. ألا تذكر أنَّك بدأت الرسم يوم كنّا معاً في تونس؟ مازلت أذكر حتَّى لوحاتك الأولى.. لقد كنت أول من أريته لوحاتك وقتها.. هل نسيت؟
لا لم أنسَ.. وكم كنت أتمنى لحظتها لو أستطيع ذلك. شعرت بشيء من الإحراج وهو يستدرجني لتلك الفترة..
كان سي مصطفى صديقاً مشتركاً لي ولسي الشريف منذ أيام التحرير. فقد كان ضمن المجموعة التي كانت تعمل تحت قيادة سي الطاهر. بل، وكان واحداً من الجرحى الذين نقلوا معي للعلاج إلى تونس، حيث قضى ثلاثة أشهر في المستشفى عاد بعدها إلى الجبهة، ليبقى حتى الاستقلال في صفوف جيش التحرير، ويعود برتبة رائد.
كان يومها بشهامة وأخلاق نضالية عالية. وكنت في الماضي أكنُّ له احتراماً وودّاً كبيرين. ثم تلاشى تدريجياً رصيده عندي.. كلما امتلأ رصيده الآخر بأكثر من طريقة وأكثر من عملة، مثله مثل من سبقوه إلى تلك المناصب الحلوب التي تناوب عليها البعض بتقسيم مدروس للوليمة..
ولكن كان أمره هو بالذات يعنيني ويحزنني. فقد كان رفيق سلاحي لسنتين كاملتين.. وكان بيننا تفاصيل صغيرة جمعتنا في الماضي ولا يمكن للذاكرة رغم كلّ شيء أن تتجاهلها.
لعلّ أكثر تلك التفاصيل تأثيراً، تلك المصادفة التي جعلت الممرِّضة في تونس تعطيني وأنا أغادر المستشفى ثيابه التي وصل بها، والتي جف عليها دمه منذ عدّة أيّام.
كان في جيب سترته يومها بطاقة تعريفه التي تكاد لا تقرأ، من آثار بقع الدم عليها. والتي احتفظت بها لأعيدها إليه فيما بعد.. ولكنه عاد بعد ذلك إلى الجبهة دون أن يدري حتى أنها كانت في حوزتي، وربما دون أن يسأل عنها. فقد كان ذاهباً إلى مكان لا يحتاج فيه إلى بطاقة تعريف.
سنة 1973 عثرت مصادفة على تلك البطاقة ضمن أوراقي القديمة. وكنت آنذاك أجمع أشيائي استعداداً للرحيل..
تردّدت بين أن أحتفظ بها أو أعيدها إليه، فقد كنت أدري أنَّ تلك الهوية لم تعد في الواقع هويته. ولكنني كنت أريد أن أواجهه بالذاكرة.. دون أيّ تعليق.
وربما كنت أريد كذلك وأنا على أبواب المنفى أن أنهي علاقاتي بتلك البطاقة التي رافقتني منذ 1975 من بلد إلى آخر، وكأنني أنهي علاقاتي بالوطن، وأضعه أخيراً هو وأشياءه خارج الذاكرة..
يومها دهش سي مصطفى وأنا أخرج من جيب سترتي تلك البطاقة وأضعها أمامه، بعد ست عشرة سنة.
أهو الذي ارتبك لحظتها.. أم أنا؟
شعرت فجأة وأنا أنفصل عنها أنني أعطيته شيئاً كان ملتصقاً بصدري؛ شيئاً منّي، ربما ذراعي الأخرى، أو أيّ شيء كان لي..
كان أنا!
ولكنني وجدت آنذاك في فرحته عزائي.. وفي احتضانه لي بذلك العنفوان الأول الذي جمعنا يوماً، مكافأة للذاكرة ووهماً ما بإمكانية إيقاظ ذلك الرجل الآخر داخله.
ها هو سي مصطفى بعد سنوات، يتأمل لوحة لي وأتأمله. لقد مات فيه الرجل "الآخر".. فكيف راهنت يوماً عليه؟
في هذه اللحظة، لا شيء يعنيه سوى امتلاك لوحة لي؛ وربما كان مستعداً أن يدفع أيّ ثمن مقابلها. فمن المعروف عنه أنه لا يحسب كثيراً في هذه الحالات، مثله مثل بعض السياسيين والأثرياء الجزائريين الجدد الذين شاعت وسطهم عدوى اقتناء اللوحات الفنية، لأسباب لا علاقة لها غالباً بالفنّ، وإنما بعقلية جديدة للنهب الفنيّ أيضاً.. وبهاجس الانتساب للنخبة.
وربما كان أكثر سخاءً معي أنا بالذات، للأسباب نفسها التي تجعلني اليوم أكثر رفضاً له.
لقد قرّر أن يستبدل بتلك البطاقة المهترئة، لوحة (أكواريل) يفاخر بها.. فهل يتساوى الدم بالألوان المائية.. ولو بعد ربع قرن!
سعدت بعدها وأنا أتخلص منه ومن سي الشريف دون أن يأخذا على خاطرهما.. ودون أن أتنازل عن ذلك المبدأ الذي حدث أن جعت بسببه. فلا يمكن لي أن آكل من الخبز الملوّث. هناك من يولدون هكذا بهذه الحساسية التي لا شفاء منها تجاه كلّ ما هو قذر!
كنت في الواقع على عجل. أريد أن أنتهي منهما بسرعة.. خشية أن تأتي في تلك اللحظة ويكونا هناك.
وكنت قلقاً ومبعثراً بين الأحاسيس التي استدرجتني إليها سي مصطفى بعد كلّ تلك السنوات.. وبين هاجس قدومك، الذي أرهقني انتظاره منذ أيام.. ولكنك لم تأتي.. لا أثناء ذلك ولا بعده.
من أين هجمت عليّ كلّ تلك الكآبة بعد ذلك؟
وإذا بقدميّ تقودانني بخطى مثقلة، محبطة، إلى البيت، بعدما كانتا قد حملتاني إلى هنا، على أجنحة الشوق الجارف.
ماذا لو لم أرك مرّة أخرى.. لو انتهى ذلك المعرض ولم تعودي؟.
ماذا لو كان حديثك عن زيارتك المحتملة مجرد مجاملة، أخذتها أنا مأخذ الجد؟
كيف يمكن لي وقتها أن أطارد نجمك المذنّب الهارب؟
وحدها تلك البطاقة التي أعطاني إيّاها سي الشريف وهو يودّعني كانت تبعث شيئاً من الأمل في نفسي. فقد كنت أعرف أخيراً الأرقام السرية التي توصلني إليك، فنمت وأنا أخطط لمبرر هاتفي قد يجمعني بك. ولكنّ الحب عندما يأتي لا يبحث له عن مبرر، ولا يأخذ له موعداً.. ولذا ما كدت في اليوم التالي أدخل القاعة وأجلس في الصالون لأطالع جريدتي، حتى رأيتك تدخلين.
كنت تتقدمين نحوي، وكان الزمن يتوقف انبهاراً بك.
وكان الحبّ الذي تجاهلني كثيراً قبل ذلك اليوم.. قد قرر أخيراً أن يهبني أكثر قصصه جنوناً..












 
التوقيع - القيصر

http://up.arab-x.com/Oct11/4rc41652.gif

  رد مع اقتباس
قديم منذ /02-23-2011   #20

القيصر
التميز الحقيقي

الصورة الرمزية القيصر

القيصر غير متواجد حالياً

 رقم العضوية : 644
 تاريخ التسجيل : Apr 2010
 المشاركات : 1,245
 النقاط : القيصر is on a distinguished road
 تقييم المستوى : 16

مزاجي:
افتراضي

الفصل الثالث


التقينا إذن..
قالت:
- مرحباً.. آسفة، أتيت متأخرة عن موعدنا يوم..
قلت:
- لا تأسفي.. قد جئت متأخرة عن العمر بعمر.
قالت:
- كم يلزمني إذن لتغفر لي؟
قلت:
- ما يعادل ذلك العمر من عمر!
وجلس الياسمين مقابلاً لي.
يا ياسمينة تفتحت على عجل.. عطراً أقلّ حبيبتي.. عطراً أقل!
لم أكن أعرف أنّ للذاكرة عطراً أيضاً.. هو عطر الوطن.
مرتبكاً جلس الوطن وقال بخجل:
- عندك كأس ماء.. يعيشك؟
وتفجرت قسنطينة ينابيع داخلي.
ارتوي من ذاكرتي سيدتي.. فكلّ هذا الحنين لكِ.. ودعي لي مكانا هنا مقابلاً لكِ..
أحتسيك كما تُحتسى، على مهل، قهوة قسنطينية.
أمام فنجان قهوة.. وزجاجة كوكا جلسنا. لم يكن لنا الظمأ نفسه.. ولكن كانت لنا الرغبة نفسها في الحديث.
قلت معتذرة:
- أنا لم أحضر البارحة، لأنني سمعت عمّي يتحدث لشخص على الهاتف ويتفق معه على زيارتك، ففضّلت أن أؤجّل زيارتي لك إلى اليوم حتى لا ألتقي بهما..
أجبتك وأنا أتأملك بسعادة من يرى نجمه الهارب أخيراً أمامه:
- خفت ألا تأتي أبداً..
ثم أضفت:
- أمّا الآن فيسعدني أنني انتظرتك يوماً آخر، إنّ الأشياء التي نريدها تأتي متأخرة دائماً!
تراني قلت وقتها أكثر مما يجب قوله؟
ساد شي من الصمت بيننا وارتباك الاعتراف الأول.. عندما قلت وكأنك تريدين كسر الصمت، أو إثارة فضولي:
- أتدري أنني أعرف الكثير عنك؟
قلت سعيداً ومتعجباً:
- وماذا تعرفين مثلاً؟
أجبت بطريقة أستاذ يريد أن يحير تلميذه:
- أشياء كثيرة قد تكون نسيتها أنت..
قلت لك بمسحة حزن:
- لا أعتقد أن أكون نسيت شيئاً. مشكلتي في الواقع أنني لا أنسى!
أجبتني بصوت بريء، وباعتراف لم أعِ ساعتها كلّ عواقبه القادمة عليّ:
- أمّا أنا فمشكلتي أنني أنسى.. أنسى كل شيء.. تصوّر.. البارحة مثلاً نسيت بطاقة الميترو في حقيبة يدي الأخرى. ومنذ أسبوع نسيت مفتاح البيت داخل البيت، وانتظرت ساعتين قبل أن يحضر أحد ليفتح لي الباب.. إنها كارثة.
قلت ساخرا:
- شكراً إذن لأنك تذكرت موعدنا هذا!
أجبت باللهجة الساخرة نفسها:
- لم يكون موعداً.. كان احتمال موعد فقط.. لا بدّ أن تعلم أنني أكره اليقين في كلّ شيء.. أكره أن أجزم بشيء أو ألتزم به.. الأشياء الأجمل، تولد احتمالاً.. وربّما تبقى كذلك.
سألتك:
- لماذا جئتِ إذن.؟
تأمّلتني.. وراحت عيناك تتسكعان في ملامح وجهي، وكأنهما تبحثان عن جواب لسؤال مفاجئ.. ثمّ قلت في نظرة مثقلة بالوعود والإغراء..
- لأنك قد تكون يقيني المحتمل!
ضحكت لهذه الجملة التي تحمل تناقضاً أنثوياً صارخاً_ لم أكن أعرف بعد أنه سِمَتك_ وقلت وقد ملأتني عيناك غروراً وزهواً رجالياً:
- أمّا أنا فأكره الاحتمالات.. ولذا أجزم أنني سأكون يقينك.
قلت بإصرار أنثى على قول الكلمة الأخيرة:
- إنه افتراض.. محتمل كذلك!
وضحكنا كثيراً.
كنت سعيداً وكأنني أضحك لأول مرة منذ سنوات. كنت أتوقع لنا بدايات أخرى، وكنت قد أعددت جملاً ومواقف كثيرة لمبادرتك في هذا اللقاء الأول. ولكن اعترف أنني لم أكن أتوقع لنا بداية كهذه.
فقد تلاشى كلّ ما أعددته ساعة قدومك.. وتبعثرت لغتي أمام لغتك التي لم أكن أدري من أين تأتين بها.
كان في حضورك شيء من المرح والشاعرية معاً. كان هناك تلقائية وبساطة تكاد تجاور الطفولة، دون أن تلغي ذلك الحضور الأنثوي الدائم.. وكنت تملكين تلك القدرة الخارقة على مساواة عمري بعمرك، في جلسة واحدة. وكأن فتوّتك وحيويّتك قد انتقلتا إليّ عن طريق العدوى. كنت ما أزال تحت وقع تصريحاتك تلك، عندما فاجأني كلامك:
- في الواقع.. كنت أريد أن أرى لوحاتك بتأنٍّ أكثر، لم أكن أريد أن أتقاسمها في ذلك اليوم مع ذلك الحشد من الناس.. عندما أحبّ شيئاً.. أفضل أن أنفرد به!
كانت هذه أجمل شهادة إعجاب يمكن أن تقولها زائرة لرسّام.. وأجمل ما يمكن أن تقوليه لي أنت ذلك اليوم. وقبل أن أذهب بعيداً في فرحتي أو أشكرك أضفت:
- ما عدا هذا.. كنت أود أن أتعرَّف عليك منذ زمن بعيد. لقد كانت جدتي تحدثني أحياناً عنك عندما تذكر أبي. يبدو أنها كانت تحبك كثيراً..
سألتك بلهفة:
- وكيف هي (أمّا الزهرة)؟ إنني لم أرها منذ زمان.
قلت بمسحة حزن:
- لقد توفيت من أربع سنوات، وبعد وفاتها انتقلت أمي لتعيش مع أخي ناصر في العاصمة. وجئت أنا إلى باريس لمتابعة دراستي. لقد غيّر موتها حياتنا بعض الشيء.. فهي التي ربَّتنا في الواقع..
حاولت أن أنسى ذلك الخبر. كان موتها شوكة أخرى انغرست في قلبي يومها. فقد كان فيها شيء من (أمّا)، من عطرها السري، من طريقتها في تعصيب رأسها على جنب بالمحارم الحريرية، وإخفاء علبة "النفّة" الفضّيّة في صدرها الممتلئ. وكانت لها تلك الحرارة التلقائية التي تفيض بها الأمهات عندنا، تلك الكلمات التي تعطيك في جملة واحدة ما يكفيك من الحنان لعمر بأكمله.
ولكن الوقت لم يكن للحزن. كنتِ معي أخيراً، وكان على الزمن أن يكون للفرح فقط.
قلت لك:
- رحمها الله.. لقد كنت أنا أيضاً أحبّها كثيراً..
تراك أردت عندئذ، أن تضعي نهاية لموجة الحزن التي فاجأتني. خشية أن تجرفنا معاً نحو ذاكرة لم نكن مهيأين بعد لتصفحها.
أم فقط كنت تريدين أن تطبّقي برنامج زيارتك عندما نهضت فجأة وقلت:
- أيمكنني أن ألقي نظرة على لوحاتك؟
وقفت لمرافقتك.
رحت أشرح لك بعضها والمناسبات التي رسمتها فيها عندما قلت وأنت تنقلين فجأة عينيك من اللوحات إليّ:
- أتدري أنني أحب طريقتك في الرسم؟. أنا لا أقول لك هذا مجاملة، ولكن أعتقد أنني لو كنت أرسم لرسمت هكذا مثلك.. أشعر أننا نحن الاثنين نرى الأشياء بإحساس واحد.. وقلّ ما أحسست بهذا تجاه إنتاج جزائري.
ما الذي أربكني الأكثر لحظتها؟. أترى عيناك اللتان أصبح لهما فجأة لون آخر تحت الضوء، واللتان كانتا تتأملان فجأة ملامحي وكأنهما تتأملان لوحة أخرى لي.. أم ما قلته قبل ذلك والذي شعرت أنه تصريح عاطفي وليس انطباعاً فنياً؛ أو هكذا تمنَّيت أو خيّل لي. توقف سمعي عند كلمة "نحن الاثنين". إنها بالفرنسية تأخذ بعداً موسيقياً عاطفياً فريداً.. حتى إنها عنوان لمجلة عاطفية تصدر لمن تبقى من رومنطيقيين في فرنسا ( Nous deux) .
أخفيت ارتباكي بسؤال ساذج:
- وهل ترسمين؟
قلت:
- لا أنا أكتب.
- وماذا تكتبين؟
- أكتب قصصاً وروايات؟!
- قصصاً وروايات...!
ردّدتها وكأنني لا أصدق ما أسمع.. فقلت وكأنكِ شعرت بإهانة من مسحة العجب أو الشك في صوتي:
- لقد صدرت لي أول رواية منذ سنتين..
سألتك وأنا أنتقل من دهشة إلى أخرى:
- وبأي لغة تكتبين؟
قلت:
- بالعربية..
- بالعربية؟!
يتبع........











 
التوقيع - القيصر

http://up.arab-x.com/Oct11/4rc41652.gif

  رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 09:48 AM.


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. , Designed & TranZ By Almuhajir
+:: تصميم وتطوير فريق الزيني 2009 : حمزة الزيني ::+