من أدب الحوار
في عالم التقنيات ، عالم الفضائيات ، يقولون : أصبح العالم يعيش في قرية صغيرة ... إنه عالم يقتحم مجلسك ، ويدخل بيتك دون إذن أو استئذان ، يفرض نفسه عليك ، شئت ذلك أم أبيت ... إنه عالمنا الذي نعيش فيه ، عالم تتسارع فيه الأحداث ، وتتوالى عليه المتغيرات ، عالم يفكر فيه الناس بصوت مسموع ، وربما اختلط فيه الحابل بالنابل ، فيصبح من العسير على المرء أن يتبين الحق من الباطل ، والغث من السمين ، في هذا العالم يحسن بالمرء أن يتواصل ويتحاور مع الآخرين ، وبخاصة الذين يحملون معه هموما مشتركة ، لكنهم قد يفكرون بطرق مختلفة .... حوار بغيته الفائدة وتبادل الآراء والخبرات ، لا حوار من أجل الحوار ؛ ولعلنا نتساءل، ما سمات هذا الحوار وما شكله ، كيف يكون بناء هادفا ، لا جدالا تافها .
من يكتب مقالا يعرض فيه قضية لا بد أن يكون قد ألم بالأسلوب الصحيح لكتابة المقال أولا ، فيقدم لمقاله مشيرا إلى أهمية المقال والدوافع التي دعته إلى كتابته ونشره ، ثم يبسط ما أراد الحديث عنه بأسلوب جميل يختاره هو ، ويجتهد في تقديم الفكرة بحيث يؤثر في المتلقي بما يقدمه من أدلة وبراهين ، وما يثيره من عواطف وأحاسيس ، ولا يطيل في الشرح والتعليل ، بل يوجز إيجازا لا يخل ، حتى لا يضيع القارىء معه ويمل .
ومن أراد أن يعقب على مقال أو رأي أو يحاور في قضية معروضة يحتاج إلى أن يسلك الأسلوب الصحيح في كتابة المقال ذاته ، فيقدم لمشاركته أو تعقيبه موضحا الدوافع التي دعته إلى هذه المشاركة ، ثم يعرض مداخلته أو تعقيبه بأسلوب هادىء لطيف ، جاء في الذكر الحكيم توجيهٌ للنبي صلى الله عليه وسلم في أدب الحوار مع المخالفين المعارضين ( وجادلهم بالتي هي أحسن ) فأنت تخاطب العقول ، وتناجي الضمائر ، وتشحن العواطف والأحاسيس ، ولا يكون ذلك بالقهر والعنف والإملاء ، عليك أن تبني على ما تجده إيجابيا حسنا في المقال الذي تحاوره ، وتعزز فيه المثل العليا والقيم ، وتحدد موضع الخلاف ، وتحصر الزلل ، ثم تقدم الصورة المثلى ، والموقف الصحيح الذي تريد أن يكون عليه الحال ، وحذار أن يكون نقدك من أجل النقد ، وإظهار العيوب ، والاعتداد بالذات ، والتعالي على الآخرين ، واترك فسحة لمن تحاوره ، ولا تهدم كل ما ابتناه ، فاختلاف الرأي أمر وارد معروف ، إنه سنة الله في خلقه ، قال تعالى " ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة، ولا يزالون مختلفين، إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم ... " لكن الحوار يقرب المواقف ، وينير العقول ، ويهذب الانفعالات ، ويقيم الحجة ، ويأخذ بيد طالب الحق ومبتغيه .
وأما من يرد على مداخلة أو تعقيب فعليه أن يتوشح رداء الحلم والأناة ، ولا يكون رده انتصارا للنفس ، بل يشكر من عقب على مقاله ونقده ، يشكره لاهتمامه بالمقال وقراءته وتفاعله معه ، ويشكره إن كان في نقده تصويب صحيح ، دون انفعال أو تجريح ، وليتسع صدره للرأي الآخر،وقبول المناصحة والحوار فقد جاء عن عمر بن عبد العزيزرحم الله من أهدى إلي عيوبي) وعليه قبل هذا أن يصوغ رده بأسلوب المقال الصحيح الذي تحدثنا عنه .
يحسن بكاتب المقال وبمن يحاوره أن يتخلقوا بأدب الحوار ، فتكون غايتهم الأولى وهدفهم الأسمى الاحتكام إلى العقل ، والنأي عن الباطل ، والتسليم بما يمليه الحق والصواب ؛ إذ لا يصح إلا الصحيح ، يقول الإمام الغزالي : "ينبغي أن تكون في طلب الحق كناشد ضالة، لا تفرّق بين أن تظهر الضالة على يدك، أو على يد من يعاونك، وترى رفيقك معينًا لا خصمًا، وتشكره إذا عرفك الخطأ وأظهر لك الحق"
ويجدر بالمحاور أن يترفق بمن يحاورهم ، فلا يهاجم الناس في معتقداتهم وما يرونه مقدسا ، وإن كان لابد فاعلا ، فليقدم ما يراه أنموذجا صحيحا بأسلوب جذاب أنيق ، فمن شاء أن يحتذيه ، فله ذلك ، ومن شـاء ألاّ يحتذيه ، فلا سبيل إلى إرغامه وقهره ، قال تعالى : ( أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ) ، ولا ينتقص المحاور من قدر الأشخاص ولا يحقّرهم ، عليه أن يحاورهم كما يحب أن يحاوروه ، وليبتعد عن إثارة الفتن والعصبيات ، فهناك أمور لا تصلح موضوعا للحوار ، وهناك أمور لا يجدي معها الحوار ؛ إذ أنها لا تجد أذنا صاغية ، ومن وقع فيها يكون حواره بلا فائدة ، حوار أشبه ما يكون بحوار الطرشان .
الحوار الصحيح هو ما يعرض قضية يحتاج فيها إلى آراء الآخرين ومقترحاتهم ، لتتكامل الصورة ، ويتحقق الهدف الخيّر الذي ينشده الخيرون ، أو يدفع شرا ، أو يحذر من نقيصة ، أو يشحن عاطفة نبيلة ، أو ينمي علما أو فضيلة ، وما أجمل أن يستفيد الإنسان من أخيه الإنسان ، ويتعاون معه ، فيكمل أحدهم الآخر ، وقد أعجبني ما قاله الشاعر ( إيليا أبو ماضي ) في هذا المجال :
هذه أصـداء روحي فلتكنْ روحُك أذنـا
إن تَجد حُسْنا فخذه واطَّرح ما ليس حسْنا
إن بعض القول فنٌ فاجعل الإصغاءَ فنـا
ربمـا كنتُ غنيـا غير أني بك أغنى
ما لصوتٍ أُغلقتْ من دونه الأسماعُ معنى
وأخيرا نؤكد على أهمية الحوار وضرورة التخلق بآدابه لما فيه من امتزاج الآراء وتبادل الخبرات ، فالحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها التقطها ، واليد الواحدة لا تصفق .
الدكتور عياد خيرالله