الموضوع: موت بائع متجول
عرض مشاركة واحدة
قديم منذ /04-17-2010   #1

القيصر
التميز الحقيقي

الصورة الرمزية القيصر

القيصر غير متواجد حالياً

 رقم العضوية : 644
 تاريخ التسجيل : Apr 2010
 المشاركات : 1,245
 النقاط : القيصر is on a distinguished road
 تقييم المستوى : 15

مزاجي:
افتراضي موت بائع متجول

اخوتي مارايكم ان أبدأ معكم سلسلة روائع الأدب العالمي والذي يختص بالقصص والروايات والمسرحيات العالمية والعربية.؟؟؟؟

موت بائع متجول
للكاتبة الامريكية: يودورا

ر_ج. بومان، الذي تنقل لمدة أربع عشرة سنة لحساب شركة الأحذية عبر ولاية المسيسبي. قاد سيارته الفورد على طول طريق متسخة وعرة. كان يوماً طويلاً والوقت لم يتجاوز الظهيرة بعد، والشمس قد احتفظت بقوتها هنا حتى في فصل الشتاء ماكثة في كبد السماء، وفي كل مرة يطل بومان برأسه من نافذة السيارة المغبرة ليتفرس الطريق، تمتد يده الطويلة، بين الحين والآخر، تضغط على رأسه وقبعته فتجعله يحس بغضب وعجز، لقد كان محموماً وأيقن بأنه يسلك الطريق غير الصحيح، فهذا يومه الأول الذي خرج فيه بعد حصار أنفلونزي مرير، وغدا ضعيفاً شاحباً لدرجة تكفي ليصبح مهووساً بالمرآة، ولم يعد قادراً على التفكير بذهن صافٍ طيلة ساعات الظهيرة، ففي ثورة غضبه، وبدون أدنى سبب كان قد خطر على ذهنه جدته المتوفاة، التي كانت تتمتع بروح وديعة، وتمنى أكثر من مرة في صغره لو أنه سقط على ذلك السرير الريشي الواسع الموجود في غرفتها، لكنها غابت عن ذهنه كلياً... "يا لهذه البلدة المرتفعة المقفرة"!
تخيل نفسه أنه قد سلك الطريق الخاطئة وبأنه عائد من حيث أتى، وعبثاً حاول إيجاد بيت على مدى بصره ولكن، الآن، حتى رغبة عودته إلى سرير مرضه قد تلاشت، فقد أكد الطبيب شفاءه التام من مرضه بعد دفعه للفاتورة. لم يكن بومان متحسراً على الممرضة الجميلة التي غادرته مودعة، ولم يشعر بنفسه إلا وهو يهديها سواراً ذهبياً ثميناً.
كره أيام مرضه، وارتاب منه كما يرتاب الآن من الطريق الخالي من اللافتات التي أثارت غضبه، ماذا لو خلت السنوات الأربع عشرة من مرض أو حادث سيارة! فإنه يكون بذلك قد حطم رقماً قياسياً. بدأ يتساءل حول هذا الأمر.. وبالتدريج كان يزور فنادق جيدة في المدن الكبيرة ولم يكن هذا كل شيء، لأن هذه المدن كانت شديدة القيظ في الصيف وباردة في الشتاء.
نساء..تذكر الغرف الصغيرة داخل غرف أخرى كعش من صناديق ورقية صينية، وكلما فكر بامرأة خطر إلى ذهنه مفروشات تلك الغرف الموحشة، ففي الفندق يقف أمام المرآة مرتدياً قبعة سوداء ذات إطار عريض فيبدو كمصارع ثيران، وتراه صاعداً هابطاً على درج الفندق.
وما أن أخرج رأسه من نافذة السيارة حتى أحس بوهج الشمس المحرقة، أراد بومان أن يصل إلى (بيلا) ليلاً لينطرح في السرير ويريح نفسه المرهقة، ولكنه تذكر أن (بيلا) كانت على بعد خمسين ميلاً عندما رآها في البلدة السابقة ذات الطريق المفروش بالحصى.
ـ هذه سكة للأبقار.. كيف وصل إلى مكان كهذا، تساءل ماسحاً وجهه بيده ثم أعادها إلى مقود السيارة، لقد أتى إلى (بيلا) من قبل، ولم ير مثل هذه الهضبة وهذا الطريق وتلك السماء المتلبدة.
ـ يا له من أمر مخجل، نظر حوله بسرعة، لماذا لا يقر ويعترف بأنه أضل الطريق وابتعد عن مبتغاه. لم يكن من عادته أن يسأل الغرباء عن الطريق، وعلاوة على ذلك فإن هؤلاء القرويين لا معرفة لهم إلاّ بحقولهم، وليس هناك ثمة إنسان قريب منه ليسأله، فمعظمهم كانوا بعيدين عنه، ربما كانوا يبذرون الحبوب في الحقول أو على قمة البيادر، فجأة، استدار على صرير عجلات السيارة التي تقتطع وراءه أوحال الطريق بأشكال مستديرة كالكوسا الأصفر، بينما تبعته أنظار القرويين من بعيد كجدار صلب متسائلين عن هذا الغريب الواطئ أرضهم.
تجمعت الغيوم في جانب واحد في السماء، وكأنها مخدة طويلة كالتي على سرير جدته، ثم انتقلت إلى طرف الهضبة فوق شجرتي سرو سامقتين، بينما كانت عجلات السيارة تضغط على أوراق الأشجار الشاحبة المتناثرة على طول الطريق، فينبعث صوت أنين كئيب يصل إلى أذنيه.
كان يقود السّيارة بدون وعي، وفجأة وجد نفسه على حافة منحدر متآكل، فاتضح أنه في نهاية الطريق، ضغط بكل ما أوتي من قوّة على مكابح السيارة، إلا أنها اهتزت وتدحرجت باتجاه الهاوية، وبدون شك فإنها ستسقط في الوادي. خرج منها بهدوء رغم الاضطراب الذي انتابه. رفع حقيبة الأحذية ثم وضعها على الأرض وشرع يراقب السيارة وهي ترتمي في الهاوية، لم يسمع حطاماً، بل خشخشة منبعثة من الأسفل، انحنى ونظر إلى الوادي فوجد سيارته قد حطّت على عريشة ضخمة وارتاحت كأنها طفل في مهده، فشعر بالارتياح لأنه لم يكن بداخلها، ثم مالت بلطف نحو الأرض، تنفس الصعداء، ثم تساءل مندهشاً:
"أين أنا؟ ولماذا لم أقم بفعل شيء ما؟"
بدأت ثورة غضبه واهتياجه تنساق بعيداً عنه، فقد رأى بيتاً وراءه على التلة. حمل حقائبه وبرغبة كرغبة الأطفال ذهب متجهاً إلى البيت، كان يلتقط أنفاسه بصعوبة، فتوقف وارتاح قليلاً، بدا الكوخ بغرفتيه وكأنه صنع للصيادين الذين يأوون إليه طلباً للراحة، جثم بومان على التلة، ورأى أن الكوخ يميل للأسفل تحت العريشة الثقيلة التي فرشت سطحه بأغصانها الخضراء الهاربة من فصل الصيف، شاهد امرأة تقف في الممر، فتسمر في أرضه وأحس بأن في قلبه سهماً نارياً، فلم يعد يقوى على التفكير، وغدت ضربات قلبه المنتفضة عشوائية قوية، خفقان بدون ضجة، ريثما سقط كالغَمْرُ أوقعته الشباك.
استقام ولملم ما تبقى بداخله من قوة قاصداً المرأة وقال :
ـ نهار سعيد يا سيدتي.
لم يسمع دقات قلبه الآن، فقد سكن كرماد يتساقط، وانبعثت في نفسه الطمأنينة، إنه لشيء رهيب لبومان أن يكتشف ضعف قلبه، ومع سكون اضطرابه ألقى بحقائبه التي تكومت ببطء ووداعة على العشب الأشيب قرب باب الدرج. أحس بومان أن المرأة الواقفة مسنة وليس بوسعها أن تسمع خفقات قلبه التي تجاهلها هو بدوره أيضاً.
نظر إلى المرأة حذراً مشدوهاً. كانت تنظف قنديلاً متسخاً، وكأنها انتهت من النصف المقابل لها وما زال النصف الآخر أسود. وقفت في الممر المظلم بجسمها الضخم المكتنـز، وأثار الطقس بادية على وجهها الخالي من التغضن، شفتاها مطبقتان وعيناها البراقتان تنظران إليه ببلادة وفضول، رنا إلى حذائها الشبيه بأحزمة مترابطة، وتساءل .. لو أن الطقس صيف لرأيتها حافية القدمين.
لقد اعتاد بومان أن يقدر عمر المرأة من نظرة واحدة، فقدر عمر تلك المرأة بخمسين سنة. كانت ترتدي ثوباً بسيطاً ذا قماش خشن رمادي، جفف من الماء بطريقة سيئة، تظهر منه ذراعاها الورديتان المستديرتان، وقد حافظت على صمتها وتنظيفها للقنديل. أردف بومان ثانية:
ـ نهار سعيد يا سيدتي..

والى اللقاء مع تتمة القصة..........









التعديل الأخير تم بواسطة القيصر ; 04-18-2010 الساعة 08:58 AM
  رد مع اقتباس