الموضوع: موت بائع متجول
عرض مشاركة واحدة
قديم منذ /04-21-2010   #3

القيصر
التميز الحقيقي

الصورة الرمزية القيصر

القيصر غير متواجد حالياً

 رقم العضوية : 644
 تاريخ التسجيل : Apr 2010
 المشاركات : 1,245
 النقاط : القيصر is on a distinguished road
 تقييم المستوى : 16

مزاجي:
افتراضي

إنها لأمر سهل.. قال صوني. كان بوسعه أن يحس بانتظارهما وبإمكانه أيضاً سماع الكلبين اللاهثين في الحديقة ينتظران خروجه ليشرعا بالنباح، أحس بالعجز، هل باستطاعته الرحيل الآن؟ وكيف يرحل وصدره يهتز بتأثير ضربات قلبه؟ لابد أن هناك سراً يسعد هذين المخلوقين على رغم عيشتهما البدائية، فلقد أدرك تلك السرعة التي تركته فيها المرأة واتجهت إلى صوني، وها هوالآن يرتجف برداً، وبدون وعي أدخل يديه في جيبيه ينشد الدفء.
ـ بالطبع سأدفع لك أجرك.
ـ نحن لا نأخذ نقوداً لأجل ذلك.
ـ لكن أريد أن أدفع.. وهل بإمكاني قضاء الليلة هنا؟ خطا نحوهما، لو رأياه لعرفا صدقه وحاجته، تابع يقول: أنا لست قوياً بعد، وليس بوسعي السير لمسافة بعيدة، حتى إلى سيارتي.. لا أعرف أين أنا الآن؟
" توقف يحاول مقاومة دموع بحاجة لأن تنفجر، ماذا سيظنون به، اقترب صوني منه ووضع يده على كتفيه فأحس بومان بنشوة :
ـ أنت لست موظف ضرائب متسلل إلى هنا؟
استجمع بومان ما تبقى من قواه ثم قال : " لا "
ـ باستطاعتك البقاء.
ـ صوني- قالت المرأة - عليك أن تستدين قليلاً من الحطب.
ـ سأستدين من السيد ريدموند..قال صوني.
ـ ماذا؟
سأل بومان وهو يحاول أن يسمع كلمات أشبه أن تكون همساً.
ـ انطفأت نارنا وعلى صوني أن يحضر شيئاً منها، فإنها ليلة مظلمة وباردة.
ـ لكن أعواد الثقاب.. معي أعواد ثقاب.
ـ لسنا بحاجة إلى الكبريت. قالت بزهو وعظمة.
ـ أنا ذاهب إلى السيد ريدموند.. قال صوني بجدية ثم مضى.
وبعد أن انتظروا قليلاً؛ نظر بومان من النافذة فرأى شعاعاً متحركاً على الهضبة، متوزعاً بشكل دائري كمروحة تتأرجح في الحقل يميناً ويساراً، دلف صوني إلى الغرفة واضعاً الحطب في الموقد وقد أحضر خلفه حطبة مشتعلة.
ـ سنشعل النار الآن، قالت المرأة. وما أن تأججت النار في الموقد حتى أشعلت القنديل، فتعثر الضوء من الجانب الذي لم ينظف، وأضحى لون الغرفة أصفر ذهبياً كلون الأزهار. اتجهت المرأة إلى الوعاء الحديدي ووضعت حطبة متوهجة على غطائه فأصدرت صوتاً كناقوس ناءٍ، نظرت إلى بومان فوجدته منكمشاً في كرسيه من البرد والخوف.
ـ هل تحب أن تشرب شيئاً يا سيد؟ سأل صوني وهو يحضر كرسياً ذا مسند ليجلس عليه.
ـ نعم يا سيدي ، ممتاز.. شكراً.
ـ تعال ورائي وافعل ما أفعل، اتجها من خلال بهو صغير إلى البيت، ثم عبرا بئراً متدفقاً ووصلا إلى أجمة كثيفة الأشجار.
ـ اجث على ركبتيك.. قال صوني.
ـ ماذا.. تساءل بومان والعرق يتفصد على جبهته، أدرك ما يعنيه صوني عندما شرع بالزحف عبر خندق غطته أغصان أشجار تمددت على الأرض. تبعه لكن لم يستطع أن يمنع نفسه من رعشة كانت تنتابه عندما تقترب منه عوسجة أو شوكة تلامسه بلطف دون أن تصدر صوتاً، تلتصق به كأنها تلثمه ثم تتركه، توقف صوني عن الزحف وجثا على ركبتيه، وبدأ ينبش الأوساخ المتكومة.
أشعل بومان عود ثقاب وأنار المكان، فظهر إبريق من الويسكي، سكب قليلاً منه في زجاجة كانت موضوعة في جيب سترته، وأعاد دفن الإبريق ثانية.
ـ أنت لا تعرف من هو المسؤول الذي يمكنه أن يطرق بابك؟ قال صوني ضاحكاً.. هيا بنا لنعد، فليس لنا حاجة إلى أن نشرب خارج البيت كالخنازير.
على الطاولة جلسا أمام بعضهما بعضاً وشرعا يعبان من زجاجة الويسكي، في ذلك الوقت، هدأ الكلبان واستسلما للنوم، أحدهما كان مستغرقاً في أحلام جميلة.
ـ إنه لشيء جيد.. قال بومان.. هذا ما كنت أريده.
أحس وكأنه يتجرع نار الموقد.
ـ لقد فعلها.. قالت المرأة بزهو بالغ، كانت تدفع الحطب إلى طرف القدر ورائحة خبز الذرة والقهوة تملأ أرجاء الغرفة، وضعت كل شيء على الطاولة قبل أن يأتي الرجلان، وبسكّينة كالساطور ضربت حبة من البطاطا فظهرت أحشاءها الصفراء الذهبية. بعد ذلك وقفت ترمقهما للحظات حيث كانا يجلسان، اتجهت نحوهما وقالت :
" بإمكانكما أن تتناولا الطعام الآن ".
وبشكل مفاجئ ابتسمت. بومان الذي كان لتوه ينظر إلى المرأة، وضع كوبه على الطاولة بطريقة تدل على رفضه وإنكاره، لابد أن ألما قد أصاب عينيه، فهذه المرأة ليست عجوزاً، إنها شابة وديعة، لم يخمن مقدار سنوات عمرها، لكنها بعمر صوني وتربطها به علاقة حميمة، وقفت في زاوية الغرفة الداكنة المظلمة، فتَسلط الضوء الشاحب فوق جسدها، عندما انحنت فوقهما وبدأت تتضح تلك العلاقة الأسرية التي تجمعهما، لقد كانت شابة ذات أسنان مشعة وعينين براقتين، استدارت وجرت خطواتها ببطء وثقل خارج الغرفة، سمعها تجلس على فراشها الصغير ومن ثم تتمدد :
ـ إنها على وشك أن تلد طفلاً. قال صوني عاضاً على شفتيه، لم يستطع بومان الكلام، كان مصدوماً بمعرفة حقيقة ما يدور في هذا المنـزل. زواج ! زواج مثمر. إن هذا الأمر لشيء عادي بوسع أي إنسان القيام به، أحس بعدم قدرته على أن يكون غاضباً أو مستاءً لما حدث بالرغم من هذا الهزل الذي أحسه، ليس ثمة شيء غامض أو مبهم، إنه شيء خاص وهذا كل ما في الأمر، السر الوحيد هو تلك العلاقة الوطيدة بين هذين الشخصين، ولكن مجرد تذكّره لانتظار المرأة بصمت قرب المدفأة الباردة، ورحلة الرجل القاسية لإحضار الحطب والتي استغرقت ميلاً، وكيفية تجهيز الطعام والشراب بزهو يملأ الغرفة، كل تلك الأمور كانت كافية لطرد شبح الدهشة من ذهنه.
ـ يبدو أنك جائع، قال صوني.
خرجت المرأة من غرفتها حالما عرفت أنهما انتهيا من تناول الطعام، تعشت وأخرجت ما تبقى من طعام إلى الكلاب، بينما كان زوجها يتأمل تلك النار المتأججة.
ـ أعتقد أنه من الأفضل لي أن أنام هنا على الأرض قرب المدفأة.. قال بومان.
شعر لبرهة أنه قد خدع نفسه بطلب كهذا، لكن عليه أن يكون أكثر شهامة ونبلاً، فبالرغم من مرضه، فإنه لم يطلب منهما النوم في سريرهما، لقد ناشد هذا البيت طلبا لمعروف والآن اتضح له أسراره.
ـ بالتأكيد يا سيد، قال صوني.
لم يكن واضحاً لديه كم كان استيعابه لذلك الأمر بطيئاً، ليس لديهما رغبة للتخلي له عن السرير، وبعد فترة وجيزة نهضا ونظرا إليه برزانة واتجها إلى الغرفة الأخرى، ظل متمدداً قرب النار حتى بدأت أشعتها تتلاشى وتموت، تأمل ألسنة لهيب النار وهي تتآكل وتخمد.
ـ سيكون هناك رخصة أسعار خاصة على كل الأحذية خلال شهر يناير، وجد نفسه يردد العبارة بهدوء ومن ثم استسلم للنوم بشفتين مطبقتين.
يا لها من ليلة صاخبة، لقد سمع عاصفة هوجاء وناراً تموت، وكان متأكداً من سماع نبضات قلبه تخفق بعنف، ذلك الصوت المنبعث من ضلوعه، تسلل إلى سمعه أنفاس الرجل وزوجته من الغرفة المجاورة، أنفاس عميقة وروتينية، وتولد في نفسه أمنية أن يكون الطفل الذي تحبل به المرأة ابنه.
عليه العودة من حيث أتى، وقف أمام تلك الخشبات الحمراء ذات الوهج المنهك وارتدى معطفه، أحس بثقل على كتفيه، وبينما كان خارجاً رأى القنديل نصف المنظف على الطاولة، أراد أن يفرغ كل ما في جيبه من نقود ويتركها لهما. تناول حقائبه ومضى، وما أن أطل برأسه خارجاً حتى أحس بعاصفة الرياح القارصة تدفعه محاولة حمله بعيداً، كان القمر ما يزال يرسل بأشعته الواهنة، وأخذ الطريق المنحدر يشده إلى الأسفل، وما إن وصل إلى سيارته حتى عاد قلبه يدق بداخله كطلقات بندقية..بم..بم. ترنح قليلا ثم هوى غائصاً في الطريق مع حقائبه. أحس أن كل هذا، شيء معتاد، وضع يديه على قلبه وكأنه يمنع تسرب الضجيج منه.
ولكن لم يكن ليسمعه أحد.
النهاية.......والى اللقاء في راءئعة اخرى من الادب العالمي .
_________________








  رد مع اقتباس