الموضوع: موت بائع متجول
عرض مشاركة واحدة
قديم منذ /04-19-2010   #2

القيصر
التميز الحقيقي

الصورة الرمزية القيصر

القيصر غير متواجد حالياً

 رقم العضوية : 644
 تاريخ التسجيل : Apr 2010
 المشاركات : 1,245
 النقاط : القيصر is on a distinguished road
 تقييم المستوى : 16

مزاجي:
افتراضي

تابع .........

..قصة موت بائع متجول للكاتبة الامريكية: يودورا

كانت تحدق، لكن لم يعلم بومان بأنها تحدق فيه أم في شيء آخر، ثم أخفضت عينيها لتصغي إلى ما سيقول.
ـ أتساءل فيما إذا كان بوسعك أن تساعديني! قال بومان.. هناك حادث.. سيارتي.. فردت بصوت منخفض كأنه آتٍ من بحيرة نائية.
ـ صوني.. هل أنت هنا؟..هل أنت هنا الآن..
فكر بومان، هل صوني هذا قادر على إخراج سيارتي. أشار بومان إلى أسفل التلة:
- سيارتي في تلك الحفرة وأنا بحاجة إلى مساعدة. ردت المرأة ثانية:
- صوني.. أأنت هنا؟.. إنه ليس هنا !.. توضح لبومان أن صوتها قوي وتبدو كأنها بلهاء. غدا الأمر لا يحتمل، فقدان الطريق وانتظار هنا، إنه لأمر ممل، تنفس قليلاً وسمع صوته يعلو فوق نبضات قلبه: لقد كنت مريضاً.. لست قوياً بعد، فهل بإمكاني الدخول؟ انحنى بومان ووضع قبعته السوداء على قبضة حقيبته وأحس بتيار يصعقه، رنا إلى المرأة، والرياح تعبث بخصلات شعره، كان بوسعه أن يستمر فترة طويلة على الوضع غير المألوف إلا أنه لم يكن رجلاً صبوراً، فعندما كان مريضاً اعتاد أن يستكين لتلك الوسائد خانعاً منتظراً دواءه وهو الآن بانتظار جواب المرأة.
نظرت المرأة إليه بعينين زرقاوين واستدارت وأبقت الباب مفتوحاً، انتصب بومان مقتنعاً بصحة تصرفاته ولحق بها إلى الداخل، وما أن دخل الغرفة حتى لامسه ظلامها كيد ناعمة وادعة. وضعت القنديل نصف المنظف على الطاولة؛ وأشارت بيدها ترشده إلى كرسي ذي مقعد أصفر صنع من جلد بقري، ثم ركنت قرب الموقد ساحبة ركبتيها تحت ردائها البسيط. أحس بالطمأنينة بادىء الأمر، ريثما بدت الغرفة كئيبة بجدرانها المؤلفة من ألواح الصنوبر الصفراء، وكان بإمكانه رؤية الغرفة المجاورة مع سرير ذي قوائم حديدية عبر الممر وعليه ملاءة مزركشة بألوان زاهية؛ تبدو كخريطة أو صورة ملونة كالتي رسمتها جدته في صباها عن احتراق روما.
كانت الرطوبة قوية في الغرفة فأحس بالبرودة. ركز عينيه على الموقد وعلى الأوعية المتوزِِِِعة في الزاوية؛ لقد رأى المدخنة الحجرية بدخانها الذي يلتف حول الهضبة وتساءل.. ليس ثمة نار في الموقد.! عندها، خيم السكون وانتشر صمت الحقول في المنطقة وتسربت الرياح إلى القاعة وأحس أنه في خطر غامض موحش، عليه أن يفعل شيئاً ما! أن يتكلم، قال :
ـ معي عدد من الأحذية النسائية الجميلة ذات أسعار منخفضة. لكن المرأة أجابت :
ـ صوني سيحضر، فهو قوي وشجاع، سيخرج سيارتك.
ـ أين هوالآن ؟
ـ إنه يعمل في مزرعة السيد ريدموند
ـ السيد ريدموند ! أحس ببهجة لهنيهة ريثما اكتشف أنه لا يعرف صاحب الاسم، شعر بالقلق وتمنى أن يبتعد عن أسماء هؤلاء الرجال المجهولين ومزارعهم.
ـ هل تسكنا معاً لوحدكما؟
اندهش لسماع صوته المعتاد المليء بالثقة والمؤثر وكأنه خصص لبيع الأحذية، فسؤال كهذا لا يهمه معرفة جوابه.
ـ نعم نحن وحيدين.. استغرب طريقة إجابتها التي استغرقت فترة طويلة وأومأت برأسها أيضاً، هل أرادت من وراء ذلك أن تخبره بأن ثمة شيئاً على وشك الحدوث، تساءل في سره باضطراب: ربما لا تريد تقديم يد العون له، أو ربما يتوجب عليه أن يتكلم إليها أكثر؛ فلقد عاش ما يقارب الشهر ولم يتحدث إلى أحد، بل واجه هلوسات في رأسه وحمى في جسمه، يا لهذه الدنيا، تركته ضعيفاً تحت رحمة الآخرين.
تعالت نبضات قلبه، حتى غدا فؤاده ينتفض كالسمكة في الشباك، تساءل طويلاً: لماذا لم تنتهِ المرأة من تنظيف القنديل المتسخ حتى الآن؟ وماذا دهاها لتبقى صامتة في الغرفة المقابلة؟ لقد ارتسمت على وجهها علامات الشجاعة والثقة، ربما لم تتكلم معه لسبب يرجع إلى خجلها من الغرباء، واستمر يراقب يديها الملتفتين على بعضهما كالملقط، وفجأة قالت:
ـ هذا صوني، إنه آت. لم يسمع بومان وقع أقدام، بل رأى رجلاً يعبر أمام النافذة ويدخل البيت مع كلبين للصيد، كان طويلاً وممتلئاً، وعلى خصره حزام تدلى على وركه، بدا في الثلاثين من عمره واكتسى وجهه حمرة وصمتاً، بنطاله موحل، وسترته عسكرية مموهة، تساءل بومان بدهشة: سترة من الحرب العالمية.. يا إلهي.. يا لها من سترة تشبه البدلات الاتحادية، أحس بومان بأنه يستخف به عندما لاحظ أنه ما زال يضع قبعته السوداء القذرة على رأسه، دفع بكلبيه بعيداً عن صدره، كان قوي البنية، وتنم حركاته عن وقار ورزانة، بدا كأنه نسخة لوالدته، وقفا بجانب بعضهما بعضاً، وأحس بومان بضرورة الإعلان عن وجوده أمام الرجل.
ـ صوني.. هذا الرجل سقطت سيارته في الحفرة، ويريد أن يعرف إذا كان بوسعك مساعدته.
قالت المرأة ذلك بعد لحظات.
لم يكن بإمكان بومان حتى التحدث في قضيته، استقرت أنظار صوني كلها عليه، فظن بومان أنه من الواجب التوسع في شرح مشكلته وتقديم شيء من النقود ليبدو أكثر وجاهة وهيبة، مر صوني بجانبه تتبعه قفزات كلبيه وتطلع إلى الخارج، كان يبذل جهداً حتى في الطريقة التي ينظر بها، وكأن باستطاعته أن يرمي بنظره بعيداً كحبل، أحس بومان أن عينيه لم تعد بإمكانهما أن تريا شيئاً، فالمسافة بعيدة جداً.
قال صوني:
ـ علي إحضار بغل وحبل.. وقريباً سأخرج سيارتك.
نظر في أرجاء الغرفة كأنه يتأملها، وتاه بصره داخلها، ثم أطبق شفتيه بثبات، ومشى والكلبان أمامه بخطوات واسعة وثابتة، عندما سمع بومان وقع خطوات الرجل قفز قلبه، وأحس به يعدو بداخله. قالت المرأة: "صوني سيخرجها "رددت العبارة بلحن موسيقي، وهي تجلس قرب الموقد. سمع بومان مطاردة بعض الحيوانات على الهضبة، بعد لحظات خرج صوني ومعه بغل بني ذو أذنين مخمليتين، نظر البغل داخل النافذة فأشاح بومان برأسه وشاهد المرأة تبادل البغل نظراته، وقد ارتسم الارتياح على وجهها، تكلمت بنغم عذب فظن أن صوتها جميل، لكنها لم تكن توجه الكلام إليه، إلا أنه شعر بفضول غريب ينبعث بداخله للكلام.
الآن، عندما خفق قلبه، خفقت معه روحه كمهر يتلاشى، حدّج في المرأة قليلاً، وبدأت أحاسيسه المختلطة تهز كيانه. لم يستطع الحراك، رآها تشبك يداً بأخرى، أراد أن يقول لها شيئاً لكنه أحس بالعجز. حاول أن يخبرها بمرضه، وكم كان يشعر بالوحدة، وأن قلبه يبذل مجهوداً فوق طاقته، وأنه أضحى يرفض هذا الفراغ، وبرغم كل هذا فإن قلبه المريض يصبو وينتظر الربيع الآتي، تعالي وامكثي في قلبي لتري أنه سيغمرك حباً كشلال دافق يجرك لأعماقه.
مسح وجهه بيده المرتجفة ورنا إلى المرأة الجاثية بصمت داخل الغرفة والتي تبدو كتمثال، وعندما أقبل الأصيل، كانت أشعة الشمس تلامس الوعاء الموضوع على الموقد، فكر بومان: غداً وفي مثل هذا الوقت سيكون قائداً لسيارته على طريق حصوي آخر، وأحس بالغبطة حين فكر بذلك، كما أنه أيقن بأن لا وقت لديه لإضاعته مع امرأة عجوز كهذه، وهنا وعلى حين بغتة، ولدت في داخله قوة جديدة أخذته بعيداً عن المكان.
ـ أظن أن صوني قد أخرج سيارتك الآن - قالت المرأة - وهو لا محالة سيخرجها من الوادي..
ـ حسناً، صاح بومان بلهجة حماسية، بدأ الظلام يزحف إلى الوادي، كان بومان منكمشاً في كرسيه، ففكر بأن ينهض ويذرع الغرفة بخطواته منتظراً الرجل، هناك شيء غامض في هذا السكون، أصاخ سمعه، وهدأت أنفاسه وأصبحت عيناه عاجزتان عن رؤية ما في الخارج بسبب الظلام المتزايد، أرهف السمع إلى أصوات ناعمة متتابعة ذات لحن جميل منبعثة من الخارج، لم يستطع تفسيرها " ما هذه الضجة" سأل بومان مخترقاً صوته الظلام، وخشي أن لا تكون الضجة إلا خفقات قلبه الصاخبة.
ـ ربما تسمع صوت الماء في الجدول.. قالت المرأة بازدراء وهي تقف بجانب الطاولة فأتى صوتها قريباً، تساءل بومان كما فعل من قبل، لماذا لم تشعل المرأة القنديل في الظلمة حتى الآن! قرر ألا يتكلم إليها مرة أخرى، وراوده تصور بألاّ يخطر في باله أنه سينام في تلك الغرفة ذات الظلمة البلهاء، اتجهت إلى النافذة ومدت يدها مشيرة على امتداد العتمة.. "تلك البقعة البيضاء هناك هي صوني". أدار وجهه إليها ثم أخذ يسترق النظر من فوق كتفيها متردداً في الوقوف إلى جانبها، بحثت عينيه في الهواء المثخن بالسواد، فوجد تلك البقعة التي أشارت إليها كورقة في نهر وكأنها قد أرته شيئاً سرياً للغاية، أشاح بوجهه بعيداً يحاول مقاومة دموع لم يحن لها أن تذرف بعد، إلا أنها التزمت بصمت كصمته، وعندما دخل صوني اهتز البيت مع خطواته فانحنت المرأة إلى جانبه. " لقد أخرجت سيارتك يا سيد " قال صوني من دون أن يراه. " وهي الآن تنتظر على الطريق هناك "..! "حسناً " قال بومان بلهجة لا تخلو من حزم وتابع :
ـ أنا ممتن جداً لصنيعك، ولا أظن أن بوسعي إخراج السيارة كما فعلت أنت.
وللقصة بقية..........








  رد مع اقتباس